IMLebanon

عودة للمسؤولين: ما هذا العبث الصبيانيّ بمصير البلاد؟

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قداس الأحد في كاتدرائية القديس جاورجيوس في بيروت.

وقال عوده في عظته بعد الإنجيل المقدس: “في هذا الأحد تقيم كنيستنا المقدسة تذكار الآباء القديسين الملتئمين في المجمع المسكوني الرابع، المنعقد في خلقيدونية عام 451، والذي جرى خلاله تحديد العقيدة المتعلقة بشخص المسيح وطبيعته. إن شخص المسيح هو مركز تاريخ العالم بأسره، فهو “الألف والياء، الأول والآخر، البداية والنهاية” (رؤ 22: 13). لذلك، تختلف مسيرة المؤمنين المسيحيين الروحية تماما عن مسيرة سواهم من البشر.

واضاف: “حياة المسيحي مركزها المسيح فقط، الذي أتى وسيأتي أيضا، الحاضر في العالم، والمنتظر في الوقت نفسه. المسيحي مرتبط بالمسيح بعلاقة شخصية حية تشمل معاني الحياة كلها. المسيح هو الطريق والحق والحياة (يو 14: 6)، هذا يعني أن مركز العالم شخص واحد، هو في الوقت نفسه إنسان مثلنا ورب ضابط الكل. إنه الإله – الإنسان. لكن، في أيامنا هذه، كثيرون يعتبرون أنفسهم مركز حياة البشر، ومحركيها، بعضهم للأسف مسيحيون في سجل القيد فقط، أما حياتهم فجحود للمسيح وتعاليمه. المسيح أتى ليعيد إحياءنا بعد أن سقطنا ودخل الموت حياتنا، فخلصنا بثمن غال هو دمه، أما هم، فلا يفعلون سوى التنكيل بخليقة الرب من أجل مصالحهم الخاصة وطموحاتهم”.

وتابع عودة: “المسيحيون المعمدون لم يدركوا بسهولة حقيقة شخص المسيح. ففي تاريخ الكنيسة ظهر عدد كبير من الحكماء والفهماء بحسب مقاييس العالم، هؤلاء لم يستطيعوا أن يتقبلوا إيمان الكنيسة ببساطة قلب. منهم من تأثر باليهودية أو بالفلسفة اليونانية، فأفسدوا الإيمان وعلموا الشعب تعاليم هرطوقية. عندئذ، واجهت الكنيسة الهرطقات بتعاليم الآباء القديسين الملهمة من الله. هؤلاء الآباء اجتمعوا في مجامع عديدة، وحددوا الإيمان القويم بمصطلحات لها سلطة جامعة، وأهم تلك المجامع ما أعطي صفة المسكونية. هذه دعا إليها أباطرة وشارك فيها ممثلون عن كل الكنائس المحلية. ويجب القول إن مجرد انعقاد أحد المجامع، ولو راعى الشروط القانونية كلها، لا يضمن إيمانه القويم، لأن الضمانة في الكنيسة هي الآباء القديسون الذين تتبعهم المجامع. المجمع لا يصنع الآباء، إنما يتألف من آباء، لذلك يكون ملهما من الله. مجمع بلا أشخاص ملهمين من الله لا يكون هو ملهما من الله. الكنيسة، عندما تعيد للمجامع المسكونية السبعة، التي انتصرت على هرطقات القرون الثمانية الأولى، تريد أن تظهر بلهجة قاطعة الإيمان القويم بشخص المسيح، وفي الوقت نفسه تود تكريم الآباء القديسين الذين عقدوا هذه المجامع للدفاع عن الإيمان القويم”.

واشار الى أنّ “العيد اليوم يعني اعترافا بالإيمان وعرفانا بالجميل، نعترف بإيمان المجامع المسكونية، ونعترف بالجميل لله الذي منحنا الآباء أنوارا على الأرض، فنمجده، لم تقم المجامع المسكونية “بحل الناموس” الذي عاشت الكنيسة بموجبه، إنما “كملته” بصياغتها له كي تحافظ على حياة أعضائها. عبرت، في ظروف مختلفة، عن الحقيقة القائلة إنه في المسيح “يحل ملء اللاهوت جسديا” (كو 2: 9). كنيستنا آبائية، أي يأتي الآباء ليكملوا عمل الآباء الذين سبقوهم، لا ليهدموا عملهم حتى يبنوا من جديد. كم كنا نتمنى أن يكون عمل المسؤولين عندنا آبائيا أيضا.”

ولفت الى أنه “في بعض البلدان يحترمون “الآباء المؤسسين” في إشارة إلى المسؤولين الذين وضعوا الدساتير ووسعوها وأسسوا العمل بموجبها ورسخوا هذا الفكر في أبناء بلدانهم. كل من أتى بعد الآباء المؤسسين عمل بنهجهم، ولم يهدم ما بنوه حتى يظهر أنه هو المخلص الوحيد الحقيقي، لأنه يعرف أنه إن هدم، سيهدم تراثا كاملا ويعود إلى الوراء بدلا من التقدم، وستنتفي المصلحة العامة. حبذا لو تصرف الزعماء والسياسيون عندنا بمسؤولية تجاه هذا البلد وشعبه. ليتهم احترموا الدماء التي أهرقت على مدى الأجيال من أجل الاستقلال الحقيقي. ليتهم ساروا في النهج المؤسساتي الذي يضمن حسن سير العمل ونزاهته واستقلاليته، ولم يسكن قلوبهم شيطان الأنانية وحب الظهور والجشع والتسلط الأعمى. المسيح نفسه قال في إنجيل اليوم: “لا تظنوا أني أتيت لأحل الناموس والأنبياء، إني لم آت لأحل لكن لأتمم”. لم ينقض المسيح أي ناموس وضع قبل مجيئه على الأرض، لكنه أكمل وسد الثغرات وأرسى المحبة أساسا للحياة. أما عندنا، فلا حرمة لدستور أمام مصالحهم، ولا قانون يطبق إلا بما يوافقهم، ولا حصانات تسقط من أجل المصلحة العامة، بل هم فوق القانون والمحاسبة. يتغنون بالمؤسسات لكنهم يعملون على هدمها بتصرفاتهم الرعناء، يرفعون الشعارات لكنهم لا يقومون بأي عمل من أجل تطبيقها، ينتقدون بعضهم بعضا وينصبون أنفسهم ديانين، وأفعالهم تفضح نواياهم، والمواطنون يدفعون الثمن”.

واردف: “لقد أتى المسيح “ليكمل” الناموس، وبحسب بولس الرسول: “المحبة هي كمال الناموس” (رو 13: 10). كشف لنا المسيح حقيقة الله والإنسان، وأظهر لنا أن الحق يتماهى مع المحبة. هذا يعني أنه ما من حق خارج المحبة، وما من محبة خارج الحق، ذلك لأن المحبة ليست مشاعر ظاهرية، ولا خطابات رنانة، ولا وعودا واهية، كما أن الحق ليس أمرا يتعلق بالمنطق الجامد. معرفة الحق هي الدخول في شركة مع المسيح الإله والإنسان.”

ورأى أنه “من خلال تحديدها للايمان الصحيح بشخص المسيح، حفظت المجامع المسكونية شروط المحبة الخالصة، ومنحتنا فرصة الخلاص، الذي هو الشركة مع المسيح والإتحاد به. وكما أن من واجب الكنيسة أن تصلي من أجل مسؤولي البلاد، من أجل أن يعملوا الأعمال الصالحة، وهكذا يصلون إلى الملكوت السماوي، كذلك على كل مسؤول أن يعمل من أجل الخير العام، لكي يجعل البلد المسؤول عنه تذوقا مسبقا للملكوت، وفردوسا أرضيا لأبناء بلده، لا مقبرة جماعية. لسوء حظنا، لقد أصبح لبنان مقبرة لمن تبقى من أبنائه الذين يماتون كل يوم ألف مرة. فمن التفتيش عن الدواء المفقود، إلى اقتناص بعض الطعام بأسعار جنونية، إلى الوقوف ساعات من أجل قطرات وقود، إلى العيش في الظلام، والنوم أو بالأحرى عدم النوم بسبب الطقس الحار الذي اكتوى نوابنا ببعض لهيبه في إحدى جلساتهم. لكن المصيبة أننا لا نعاني من حر الصيف فقط، إنما نكتوي بأعمال المسؤولين وفسادهم وسوء إدارتهم ونرجسيتهم في كل لحظة”.

واضاف: “لقد سمعنا في رسالة اليوم كلاما يجب على كل مسؤول أن يسير بهديه. يقول الرسول بولس لتلميذه تيطس: “صادقة هي الكلمة وإياها أريد أن تقرر، حتى يهتم الذين آمنوا بالله في القيام بالأعمال الحسنة، أما المباحثات الهذيانية والأنساب والخصومات والمماحكات الناموسية فاجتنبها، فإنها غير نافعة وباطلة، وليتعلم ذوونا أن يقوموا بالأعمال الصالحة للحاجات الضرورية حتى لا يكونوا غير مثمرين. الإثمار السريع مطلوب في لبنان قبل الوصول إلى الفوضى والإضمحلال. إتقوا الله في عبيده، يا أيها المسؤولون، إن كنتم مسؤولين، واعملوا على إحقاق الحق ونبذ التجاذبات والحقد والمناكفات والخصومات والمماحكات لأنها لا تنفع أحدا”.

وختم عوده: “إن تغليب العواطف الشخصية السلبية لا يجدي ولا يبني بلدا، المطلوب من الجميع، بلا استثناء، التخلي عن العناد، واعتماد الحوار والتواصل الإيجابي البناء، وتقديم التضحيات. الشعب جائع، الأطفال بلا حليب، المرضى بلا دواء، الظلام دامس، الحر حارق، الليرة في أدنى مستوياتها ولم نشهد تنازلا لإنقاذ البلد من هذا الجحيم. لقد سرقتم حياة اللبنانيين وآمالهم وقضيتم على طموحاتهم وأوصلتم البلد إلى أقصى الجحيم. ما هذا العبث الصبياني بمصير البلاد والعباد؟ ألا تعرفون الرحمة؟ والتوبة؟ والبكاء على الأخطاء؟ تذكروا أن الله كما أنه كثير الرحمة هكذا هو شديد العقاب، فيقضي على الرجل بحسب أعماله” (يشوع بن سيراخ 16: 13). ودعوتنا أن نتشبث بإيماننا، وأن نثق بأن الرب الذي ساعد آباء الكنيسة على الإطاحة بالهرطقات السامة، سيساعدنا في أية محنة نمر بها، مهما اشتدت العواصف وحاولت اقتلاعنا، آمين”.