IMLebanon

الثورة “النائمة” في لبنان… هل تصحو من جديد؟

كتبت زيزي أسطفان في “الراي الكويتية”:

كل الناس يسألون: «أين الناس؟». هذا هو حال اللبنانيين الذين لزموا بيوتهم وكأنهم في حال «اعتراض» خلف الجدران بعدما دَفَعَهُم الارتطامُ الكبير الذي حلّ ببلادهم ولقمةِ عيْشهم وأحلامهم وحقوقهم البديهية إلى اليأس أو إلى… خلْف البحار.في ليلةٍ ليلاء من تشرين الأول العام 2019، نزلتْ غالبية اللبنانيين إلى الشارع. أعلنوها ثورةً على واقعٍ لم يعد يُشْبِهُهُمْ وعلى سلطةٍ نهشتْ حتى لحمَهم الحي، ملأوا الساحات والشوارعَ، رفعوا قبضاتهم عالياً من أجل التغيير، قالوا كلاماً بـ«لسانٍ واحدٍ» عن لبنان الواحد، وسمّوا الأشياء بأسمائها.

بعد أقلّ من عامين بقليل، بدت ثورة اللبنانيين «البؤساء» كأنها تبخّرتْ رغم تهاوي أوضاعهم والكوارث الهائلة التي أَطْبَقَتْ على يومياتهم، وليس أقلّها التفجير الهيروشيمي في مرفأ بيروت والانهيارات المتوالية في وسائل العيش… الطبابةُ والتنقلُ والتعليمُ والغذاء والاستشفاء والنور (الكهرباء).

ثمة سؤالٌ لم يَخْفُتْ. ما سرّ تَراجُع الناس الذي أتاح لـ«المنظومة» الحاكمة استرداد زمام المبادرة؟ هل رفعوا الرايات البيض أم أن الشارع في استراحة مُحارِب؟…

سمير سكاف أحد أبرز الناشطين في الانتفاضة، حاضر دائماً في الأنشطة وعلى الشاشات. سألتْه «الراي»: أين الثورة اليوم ولماذا انكفأت؟ فأجاب: «مررنا بحَدَثَيْن كبيريْن خارجيْن عن إرادتنا، جائحةُ «كورونا» التي جعلتْنا نطلب إلى الناس البقاءَ في بيوتهم، والأزمةُ الاقتصادية وما رافقها من أزمة بنزين وتنقلات أتعبتْ الناسَ في حركتهم الشخصية وجعلت اللبناني محصوراً يكاد يموت في بيته»، لافتاً إلى انه «إلى هذين الحَدَثَيْن أضيف تعبُ الناس ويأسهم من عدم تحقيق نتيجة».

وتحدّث عن «أن عناصر سلبية دخلت على الخط وأثرت في مسار الثورة، أولها الدور الأجنبي الذي كنا نعوّل عليه ليساعد لبنان في إحداث التغيير المطلوب، فإذا به يدعم السلطة الموجودة»، موضحاً «المبادرةُ الفرنسية التي عوّلنا عليها، أرادتْ أن تلعب لعبةَ الواقعية السياسية وتتعاطى مع السلطة الموجودة، وسعت إلى تشكيل حكومة شبيهة بسابقاتها تقوم على المحافظة على المحميات المالية ومزاريب الهدر وعلى المحاصصة الطائفية والمذهبية».

وفي رأيه أن عنصراً سلبياً آخَر شكّل عثرة أمام الثورة، وهو قدرة اللبنانيين على التحمّل «هذه القدرة التي كانت ميزةً في السابق تحوّلت مشكلةً بحيث بات اللبنانيون يسعون إلى إيجاد حلول فردية يتدبّرون بها أمورهم بدل السعي إلى حلول جذرية تغييرية تكون السبيل إلى الإنقاذ».

وثمة عنصر إضافي بحسب سكاف يتمثل في «مساعدة المغتربين لأهلهم في لبنان. فهذه المساعدات التي وإن كانت ضروريةً، ساهمت في الحؤول دون الانفجار الكبير وعملت على تخدير جزء كبير من اللبنانيين الذين لم يعودوا يسعون للثورة على واقعهم رغم قسوته».

عثرات عدة واجهت ثورةَ لبنان من داخل ديناميكيتها الخاصة كما من الخارج، ولكن هل استطاعتْ أن تقضي على روح الثورة؟ في تقدير سكاف أن «الثورة لا يمكن أن تموت والناس الذين تأملوا خيراً من المبادرات الخارجية أو من الحكومة سيصْحون عاجلاً على الواقع الأليم (…). صحيح أن الناس تعبوا من النزول في شكل يومي إلى الشوارع، ولكن في الأحداث الأساسية ما زالوا يلبون النداء، وهذا ما رأيناه في ذكرى انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب (…) اليوم الوجع يتصاعد والأزمات تكبر ولا شك في أن رد فعل الناس سيكون أكبر، ولكن متى يحدث؟ لا ندري (…) شعب لبنان وثواره لم يقصّروا، نزلوا إلى الشوارع مراراً وتكراراً وقد باتت الثورةُ متجذرةً في القلوب والأفكار، وهي وضعت أسسَ التغيير لكن العمل لا يمكن أن ينتهي في سنة أو اثنتين، وهو عمل تراكمي بدأنا به وقد ينهيه سوانا لكن العودة إلى الوراء صارت مستحيلةً، والثورة تكمل بأشكال مختلفة».

إيلفيا صغبيني ناشطة في مجموعة «نون» النسائية المُشارِكة في كل تحركات الثورة تدرك جيداً أن عدد الثوار صار قليلاً في الساحات لكن «الثورة باقية في فكر كل مَن شارك فيها ووجدانه». وتقول: «ظروف معيشية كثيرة واجهت الثوار وجعلتهم ينكفئون وأثّرت في قدرتهم على الصمود فيما كانوا يواجهون في الوقت نفسه شبكة عنكبوتية معقّدة مكونة من القضاء والأجهزة الأمنية ومافيا السياسة والمال بحيث بات الثوار كعين تقاوم مخرزاً، وهو ما أدى عند الكثيرين إلى حالة من الإحباط لا سيما أن الطبقة السياسية تصرّفت كأن شيئاً لم يكن. لكن مصيرنا المواجهة. لقد سكتنا 30 عاماً فتمادت السلطة بالسرقة والإجرام».

تعرف السيدة الثائرة أن مَن انكفأوا عن الشارع يواجهون كل على طريقته عبر النقابات والمحاضرات والفكر والقلم. هي ليست عاتبة على مَن غاب عن الشارع وله ظروفه المُعاكِسة الكثيرة بل على مَن لم يشارك في الأصل وبقي ساكتاً في بيته «إذ ان السكوت هو ما أوصل البلاد إلى ما هي عليه، لكن ثورة 17 تشرين الأول عرّت الطبقة الحاكمة وأظهرت عوراتها وفسادها بوضوح أمام الناس واليوم لا يمكن للشعب الذي رأى الحقائق إلّا أن يعمل على قلْبها بدءاً بخياراته في الانتخابات المقبلة».

مجموعة «نون» جعلت من تفجير الرابع من آب قضيتها المركزية، معتبرة أن جريمة كهذه لا يمكن أن تمر من دون محاسبة «ومن هنا يجب ألا نفقد الأمل أو نتراخى» تقول صغبيني «فحتى لو تغيّرت طريقة عمل الثورة وتحركاتها واتخذت أنماطاً أخرى المهمّ ألا نفقد الأمل لأن الأمل يعني الحياة ونحن نريد أن نعيش».

غاييل اشجيان شابة ثائرة شاركت في غالبية تحركات الثورة على الأرض لكن ظروف دراستها وظروف البلد دفعاها إلى السفر إلى فرنسا. إلى هناك حملتْ معها ثورتها الخاصة وأوجدتْ مع ناشطين آخرين مجموعات جديدة. وهي ترى «أن الثورة ورغم ادعاء البعض أنها فشلت في تحقيق أهدافها، إلّا أنها نجحت في إحداث الكثير من التغيير حتى ولو لم يَسقط النظام، بدءاً من وضع النساء اللواتي أثبتن حضوراً أقوى وصرن مسموعات ومرئيات أكثر، مروراً بالأماكن العامة التي عادت ملكاً للناس، وصولاً إلى الطائفية التي تجرأ الكثيرون على تعريتها والكلام عنها». والأهمّ في رأي الصبية المناضلة «أن فكر الثورة أتاح للبنانيين المنتشرين أن يتوحّدوا فلم يعد لبنان بلداً صغيراً من 4 ملايين نسمة بل أمة كبيرة من أكثر من 15 مليون لبناني منتشر في العالم».

وتقول غاييل: «بالنسبة لي، تبدّلتْ الثورة عما كانت عليه في 17 تشرين الأول حين نزل مئات الآلاف إلى الشارع، وهو أمر طبيعي لأن الناس تعبوا ولم يلمسوا أيّ تغيير على الصعيد السياسي لكن الثورة لم تَمُت بل اتخذت أبعاداً أخرى، وصرتُ أنا شخصياً أدرك أن كفاحي ليس في الشارع. وكوني في فرنسا ولن أعود إلى لبنان قريباً فإنني من خلال حركتي Lebanon Talks، Change Lebanon ومع ناشطين كثر نقوم كمنتشرين بإنشاء مجموعات للضغط على الحكومات في العالم. ونحن في صدد التحضير لحلقات بحث وحوار حيث نختار موضوعاً لبنانياً ساخناً مثل الكهرباء أو البنزين ونجمع حوله ما نستطيع من وثائق ودراسات حتى نتمكن من النقاش حول الحلول المحتملة ووضع ورقة عمل في شأنها ومن ثم تقديمها إلى القطاع الخاص في لبنان والجهات العالمية. عملنا يقوم أكثر على الضغط على مستويات عليا مثل قصر الإليزيه ووزارة الخارجية الفرنسية وبعض النواب في فرنسا لحضهم على طرح عقوبات على شخصيات لبنانية والإصرار على إجراء الانتخابات النيابية في مواعيدها».

ميشيل ونويل كسرواني شابتان انخرطتا في تحركات الثورة في لبنان لكنهما اليوم وبعد اغترابهما حولتا نشاطاتهما على الأرض إلى نشاط فني فكري ثائر يهدف من خلال الفن والأغنيات إلى تسليط الضوء على مشاكل لبنان وفساد سلطته وقد أطلقتا فيديو تحت عنوان ألف ليلة وليل كان له وقع كبير على الشباب اللبناني المؤمن بأهمية الثورة. فكلمات الأغنية توازي بجرأتها ألف خطاب، وهي ببساطتها وقربها من لغة الناس في الشارع فضحت كل ارتكابات السلطة في لبنان وحتى بعض أخطاء الثورة. الأغنية تنتهي بجملة تختصر مصير الثورة وغضب الشعب اللبناني: «لن ننسى، لن نصالح، لن نساوم، لن نصافح… لن ننسى».