IMLebanon

وداعًا المونسنيور والقاضي عبدو يعقوب!

كتب المخرج رمال بويونس:

الموت… هو خروج للروح من الجسد، الروح التي تعتبر الجسد ملكا لها، فعندما ينادي التراب الجسد، على الروح أن تتخلّى عن ملكها دون قيد أو شرط، لأن الإنسان خلق من التراب وإليه يعود. ومهما طال الزمن أو قصر، لا بد لنا من ولوج بوابة الموت.

الموت الذي يهجم فجأةً كلصٍ غادر، هو لا يحتاج إلى واسطة أحدٍ أو استئذانٍ، ولا أحدَ منا يعرف تاريخ نهايته ولا وقتها أو مكانها سوى خالق السموات والأرض.

فنحن لا نعرف ماذا سنكسب في الغد، والجسد لا يعرف بأي أرض سيموت …

إن الموت أصعب ما نواجهه، هو كأس على كل إنسان في هذه الدنيا أن يشربه. كأس طعمه مرّ كالعلقم، يوجع الأحياء وجعا لا مثيل له. فهو شعور عجزت كتب الأرض عن وصفه وليس له من طبيب، فعند موت أحد أقاربنا أو من نحب من أصدقائنا، نذوق مرارة الفقد الحقيقية، لأن لا شيء سوف يعود ويجمعنا بهم، ونبقى على ذكراهم نجترّ ألم وحزن بعدِهم عنا، فكلّ من على وجه هذه البسيطة ومن سوف يعيش عليها في المستقبل سوف يواجه الموت بدون استثناء.

كنا على يقين بأنّ كل يوم يمضي من عمرنا يقرّبنا من المونسنيور عبدو يعقوب أكثر فأكثر. ولكننا لم نكن نعي أن الموت يقترب منه أكثر منا، واننا في حرب صامته معه، وأن غدره سيكون ضربة موجعة لنا وطعنة خنجر سام يُغرز في قلوبنا لنتشارك الموت ونحن أحياء مع أبينا الروحي والقاضي في محكمة الروتا الرومانية وابن مجدل العاقورة، وعمود الكنيسة المارونية، وأرزة من أرزات الرب الخالدة في لبنان والشرق، وسفير الرحمة الإلهية في لبنان والعالم، وصديق الكهنة القديس، وقاضي العدل الالهي وصديق الحكمة الإلهية أبينا الروحي ومعلّمنا ومرجعنا المونسنيور عبدو يعقوب.

لقد جاء إلى هذه الدنيا “عاريا” ورحل عنها “عاريا” متمسكا بالنعم التي منحه إيّاها الرب، وهذا كان الهدف السامي في حياته.

هو الذي كان يقول دائماً .. انتبهوا الى جبّة المنيطرة، هو الذي ساعد ودعم الفقير والصغير والمحتاج والمعوز، وشيّد الصروح الدينية والتربوية، وأغدق وبارك ورافق جمعية القديسة رفقا للرجاء والرحمة بأدق تفاصيلها وهو راعيها الرسمي وابوها الروحي وساعد في انتشار أهدافها السامية وأوصلها الى الرب تعالى طالبا منه أن يبارك أعضاءها ويحمي رئيسها ومؤسسها الأب أندريه مهنا، وهو من طالب بالإنسانية ونادى بالمحبّة والتواضع.

سيدي… جبال العاقورة حنت رؤوسها لك. وشيبها الأبيض المكلل أدى تحية وقار لموتك،  وزهر تفّاحها سقط أرضا من حضن أمّه، فانحنت الأغصان حزنا عليه، والأحجار اتكأت على التراب صامتة ليبكيك هو ويكتب التاريخ أن التراب بكى يوما على رجل لم ولن يتكرر مرتين، رجل مات مرّتين: مرة عندما ولد، ومرة عندما دخل مثواه الأخير ورحل مع الأبرار والصدّيقين حيث الراحة الأبدية…

أبي… نبكيك بحرقة نحن أبناء جمعيتك الغالية على قلبك القديسة، وحروف الأبانا والسلام ترتجف وعيوننا لا تتحدث، وأصواتنا هجرتنا الى ما وراء البحار والمحيطات لا ندري الى أين، فثمة شيء آخر غير الموت يقتلنا يا أبي وهو الفراق واللاعودة، فعدم سماع صوتك يهد كياننا. وعدم قدرتنا على رؤية وجهك الصبوح هو حكم نزل علينا كالإعدام، وكأنه كُتب علينا أن نحمل صليبنا مع أبينا أندريه، وجوزف وروجه رفاق دربك وإخوتك في الكهنوت مع المسيح لنمشي درب جبّة المنيطرة وانت معنا في الروح وبعيد عنا بالجسد.

سيدي… ماذا سأقول لمار سابا عندما يسألني عنك؟ كيف أبرر له رحيلك في يوم عيده؟ أتعرف أن سيدة الحبس أمنا العذراء مريم المشرق وجهها على المجدل عيناها تقولان: أنا الأم الحزينة وتبكيك لأنك ولدها وأخ للمسيح. وكأننا في يوم الجمعة العظيمة وأصوات أجراس الحزن تُقرع، والأسود وشاح يلفّ أرضك حزنا على هيبة موتك وقداسة اسمك وعظمة أعمال الرحمة التي قمت بها باسم المسيح ورفقا وشربل وإسطفان ويعقوب …

أبي… إلى أن نلتقي، فليرحمنا موتك بعظيم رحمته، ونعدك كما عاهدناك أن نبقى أوفياء لك ولكنيستنا ولشعبنا المسيحي المضطهد، وسنظل خدّاما تحت أقدامه وجنودا عند الروح القدس.

ونطلب من رب الأكوان الذي سيلتقي بك قريبا في الفردوس أن يجعلك قديسا بأعمالك وطيبتك وحنانك وغفرانك وتواضعك ومحبتك. كما أن قريتنا هي أرض البطاركة هي مهد ولحد القديس عبدو يعقوب الكاهن الذي خدم بيعته بصمت ورحل عنا بصمت تاركا مجدا وعزوة والف قصة وقصة ستكتب بخيوط من ياقوت وذهب على أوراق خرجت رائحة البخور منها عند تلاوة كلمات كتبت بحروف تقطر زيتاً كلما نطق بها أحد…

فيا من ترقد على رجاء القيامة أنت لن ترحل عنّا بل سترتفع الى عليائك بين أحضان الآب لرعايتنا من ذرى الأعالي السماوية.. فالمجد والخلود لروحك الطاهرة، ونفتخر أننا صافحنا يمناك يوما وتباركنا منها بركة قديس من جبال وأرض العاقورة الأبية.