IMLebanon

عوده: من عرف المسيح هو ذاك الذي عاش التواضع والطاعة

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده، قداس الاحد في كاتدرائية مار جاورجيوس للروم الارثوذكس في بيروت، في حضور حشد من المؤمنين.

بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “فيما نبدأ عاما جديدا، وقبيل عيد الظهور الإلهي العظيم، من المناسب أن نستحضر إلى أذهاننا حقائق محددة لها علاقة مباشرة بخلاصنا. بالنسبة إلى غير المؤمنين، الزمن قاس. إنه عدو لا يرحم، يقيس الفترة المتراوحة بين الولادة والموت، والمسيرة الفاصلة بين ظلمةٍ وظلمة أخرى. أما بالنسبة إلى العائشين في الكنيسة، الذين نالوا الولادة الجديدة بالمعمودية، فالأمور مختلفة. يتخذ الزمن معنى آخر، يصبح كله تهيئة مكثفة، ليس للموت، بل للحياة، أي لكيفية اكتساب نعمة الله التي تخلص الإنسان. فالكنيسة تواصل، داخل الزمن، عمل يوحنا المعمدان سابق المسيح، تعد طريق الرب في قلوب الناس”.

أضاف: “سمعنا في إنجيل اليوم، كلاما على يوحنا المعمدان، سابق المسيح وصابغه. فاليوم، لكونه الأحد الذي يسبق عيد الظهور الإلهي، نتهيأ من خلال القراءة الإنجيلية لسبل تفعيل نعمة المعمودية التي منحنا إياها في طفوليتنا. كما نتعلم أن أساس هذه المعمودية هو تفعيل التوبة الدائمة، التي يسميها الآباء القديسون معمودية الدموع. الزمن أعطي لنا لكي نكسب الخلاص من خلاله، واستغلالنا إياه يجعلنا نتذوق الحياة الأبدية منذ الآن. علينا أن نتذكر دائما أن الزمن هو ساحة قتال مع القوات المعادية لله، التي تحاول إلصاق ذهننا بالماديات والزائلات. تلك القوات تختلق حوادث لها وقع الإنفجار لتنتزع انتباهنا عن مشاكلنا الحقيقية، وتوقعنا في أشراك المشاكل الوهمية. تحاول أن تضللنا، حتى نرى الشر من خارجنا، فنواجهه بطريقة خاطئة لا توصلنا إلى نتيجة. لقد وضع الشيطان داخل الزمن فخاخه كلها، ورتب فيه هجماته المؤذية. إلا أن الزمن يصبح خلاصيا عندما نكسر خلاله، بطاعتنا للمسيح، عقالات حب الذات الذي يخنق القلب، ونفتح معبرا تنفذ منه نعمة الله إلى داخلنا، وهي نعمة الله المخلصة جميع الناس (تيطس 2: 11). يعلم القديس ذياذوخس أن نعمة الله تسكن أعماق القلب منذ لحظة المعمودية، لكن من غير أن تجعل حضورها ملموسًا. فإذا بدأ الإنسان يحب الله بحريته وكامل إرادته، أبرزت هذه النعمة حضورها في النفس. حينئذ، إذا قلنا إننا نفتح معبرا تنفذ منه نعمة الله إلى داخلنا، نحن الذين نلنا المعمودية، فهذا يعني بالنسبة إلينا تفعيل نعمة المعمودية الساكنة في نفوسنا. هذا تماما ما ترمي إليه الحياة الكنسية كلها. هذه المسيرة المتجهة نحو الداخل هي جوهر التوبة، لكن لا يتيسر للمرء اتباع هذه المسيرة إذا لم يتهيأ سابقا بكرازة التوبة”.

وتابع: “إن الجهل والسهو عن الله، وعن أنفسنا أيضا، هما عاقبة الأهواء التي استحوذت علينا. نحن لا ندرك مدى سوء حالتنا الداخلية، ولا مدى الخطيئة التي قد تشوب أفعالنا. نرى الخطايا في التعديات الجسيمة وحدها. إنما فقدان الحس الروحي هذا هو عاقبة سقوطنا وكسلنا في آن. فإما إحساس النفس ميت، أو عمله ناقص، تاليا يسكت الضمير مرارا كثيرة، بحيث يمنعنا هذا الشلل الداخلي من سلوك طريق التوبة من تلقاء أنفسنا. لا بد من أن يحثنا عليها أحد ما، أو يلهمنا إياها ملهم. هذا ما فعله الله بناموسه المكتوب. فإن ما تبع السقوط من فساد، وضياع في النفس، نجم عنه فقدان غالبية الناس لاتصالهم الشفهي بالله. لذلك أعطاهم الله الناموس المكتوب بموسى كمؤدبنا إلى المسيح (غل 3: 24). موسى والأنبياء ظلوا على اتصال مفتوح بالله، لهذا استطاعوا أن ينقلوا مشيئته للشعب. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إنه كان من المفروض ألا نحتاج إلى مساعدة الشريعة المكتوبة، بل أن نقدم حياة طاهرة بحيث تمتلك النفوس الروح القدس بدلا من الكتاب. الكنيسة تستمر، كما رعاتها، في القيام بعمل يوحنا السابق والصابغ، فتهيء الشعب لاستقبال المسيح. تعلم المزمعين أن يعتمدوا، كما تهيء أعضاءها المعمدين، للمجيء الثاني للمسيح، لكي ترتبهم في مصف المختارين الأبرار، أي في الفردوس. ما زالت الكنيسة تولي أهمية كبيرة للتعليم المسيحي، ولتهيئة أولئك الذين سينالون المعمودية من البالغين. لم تكتف بتعليمهم بضع حقائق إيمانية نظرية، بل أدخلتهم في سر الكنيسة بالكامل. والجدية التي واجهت بها الكنيسة انتساب الأعضاء الجدد لجسدها، تظهر مدى الجدية التي يجب أن نبديها حيال التعليم الديني والإرشاد الرعائي لأعضاء الكنيسة، الذين نالوا المعمودية صغارا. هذه مسؤولية الرعاة الذين ينظمون عمل التعليم الديني في الكنيسة، لكنها أيضا مسؤولية الأهل في البيت”.

وقال: “قلنا إن هدف الحياة الكنسية هو تفعيل نعمة المعمودية المقدسة الكامنة في أعماق القلب. من خلال التعليم الديني، يجب أن نسمع بقوة وبوضوح كرازة التوبة التي نادى بها يوحنا المعمدان. قد تتغير الأزمنة، لكن الميول العميقة الجوهرية في الإنسان لا تتغير. لا يرتوي الإنسان بشيء من المخلوقات، لذلك، في أفضل لحظات حياته، سيطلب أن يهرب من عالم الغش إلى الصحراء. هذا لن يحققه مكانيا، بقدر ما يحققه في طريقة حياته، من خلال ابتعاده عن طريق التفكير العالمي الصاخب. لعله هناك، في الهدوء، يستطيع أن يختبر كرازة التوبة ويعتنقها، وهذه الغربة تعطي القيمة الأكثر جوهريةً للزمن. متى تعلمنا كل هذا، عندئذ يمكننا تطبيق ما سمعناه في نص رسالة اليوم، أي أن نكون متيقظين في كل شيء، ونحتمل المشقات ونعمل كمبشرين ونتمم الخدمة”.

وختم: “في الأخير، علينا جميعا، كأعضاء في الكنيسة  جسد المسيح، أن نكون على مثال يوحنا المعمدان، مستعدين لإتمام البشارة في برية هذا العالم، والأهم، أن نكون متواضعين مثله، وألا نظن أننا إن تعلمنا قليلا عن المسيح أصبحنا نعرف كل شيء. علينا أن نشعر دوما أننا لا نستحق أن نحل رباط حذاء المسيح. فمن عرف المسيح حق المعرفة، هو ذاك الذي عاش التواضع والطاعة الكاملين، عندئذ فقط يحصل على الإكليل السماوي. صلاتنا أن يظهر الثالوث القدوس في حياة كل واحد منكم، وأن تكونوا بدوركم منارات تشع بنعمة الروح القدس المنسكب في قلوبكم بالمعمودية المقدسة، آمين”.