IMLebanon

الهجرة تحوّل لبنان إلى مجتمع هرِم

كتبت أنديرا مطر في “القبس”:

تخنق الأزمة الاقتصادية الحادة التي بدأت منذ أكثر من سنتين، اللبنانيين، وقد بات %80 منهم تحت خط الفقر، وهو ما يدفع بالشباب إلى التقاط فرصتهم الوحيدة للنجاة من خلال الهجرة إلى بلاد أخرى للعمل وربما للإقامة الدائمة والحصول على جنسية أخرى.

وتثير هجرة الشباب اللبناني المخاوف من تحويل البلد في المدى المنظور إلى «مخيم لغير مواطنيه». ورغم ان الباحث في الشركة الدولية للمعلومات محمد شمس الدين يستبعد هذه الفرضية إلا أنه ينبه إلى ما هو أخطر «فهجرة الشباب ستحول لبنان إلى مجتمع هرم، وعندها يصبح من الضروري اللجوء إلى العمالة الأجنبية لتسيير عجلة الإنتاج».

«رايحة على دبي؟»، سألتني شابة لبنانية، بينما كنت متجهة إلى «كاونتر» فحص الحقائب في مطار بيروت، وعندما أومأت لها بالإيجاب، قالت بصوت مخنوق: «خديني معك».

أدركت أن الفتاة، التي تبدو في أواخر مراهقتها، تسافر للمرة الأولى، وحيدة. طمأنتها بأن الأمر أسهل مما تظن، ووعدتها بمواكبتها حتى خروجنا من مطار دبي، حيث سيأتي قريبها ليقلها إلى منزله.

وصولنا إلى المطار قبل ثلاث ساعات أفسح لنا الوقت لإنجاز الإجراءات سريعاً وإيجاد فسحة من الوقت للتجول في السوق الحرة وتبادل الأحاديث.

حين عرضت عليها الدخول إلى الكافيتريا لتناول العصير قالت بصوت خفيض أنها لم تنم منذ أيام ثلاثة، وقد بدأت تظهر عليها عوارض الإرهاق.

تغادر ماريتا لبنان، للمرة الأولى، من أجل العمل في صالون تجميل بدبي، بواسطة من خالتها المقيمة.

وبينما نحن ننتظر ساعة الإقلاع، أخبرتني ابنة بلدة المطلة في الشوف، المقيمة في جبيل، أنها اضطرت للتخلي عن دراستها الجامعية مع بداية الأزمة المالية قبل ثلاث سنوات، لتتجه إلى دراسة فن التجميل، بدورة سريعة لا تتجاوز ستة أشهر، أملاً بإيجاد عمل بأسرع وقت.

وتضيف: «والدي وشقيقتي يعملان ويتقاضيان راتبيهما بالعملة اللبنانية. راتب يذهب لتسديد فاتورة اشتراك مولّد الكهرباء، بينما نتعامل بالراتب الثاني وفق الأولويات: الطعام والدواء».

التوقف عن التعليم

وحسب إحصائية نشرتها منظمة اليونيسيف مطلع العام الحالي، فإن 3 من بين كل 10 شبان وشابات في لبنان توقفوا عن التعليم، ويعتقدون أن الحياة ستزداد سوءاً، مفندة في دراسة عن واقع ومستقبل الشباب اللبناني «معطيات بالغة السلبية حيال الصحة النفسية لجيل الشباب. فمع غياب الإرادة السياسية بمعالجة المأزق، تشتد وطأة الأزمة الاقتصادية، وتواصل البلاد هبوطها الحر إلى قعر الانهيار، فيما بات أمل الشباب الوحيد بالخلاص الخروج من وطن يشعرون أنهم قيد الاقامة الجبرية فيه. وبحسب الاحصائية فإن نحو 41% من الشباب اللبناني يجدون أن فرصة النجاة الوحيدة أمامهم هي البحث عن فرص في الخارج».

جوازات السفر

«حمداً لله أني أملك جواز سفر. والداي وشقيقتي سعوا لتقديم طلب للحصول على جوازات ولم يفلحوا بسبب عدم توافر الشروط المطلوبة» تقول ماريتا.

هذه معاناة أخرى تواجه الطامحين بالمغادرة بحثاً عن فرصة للحياة، فقد حددت مديرية الأمن العام اللبناني شروطاً «تعجيزية» للحصول على جواز سفر، بعدما تبين أن الغالبية الساحقة من المواطنين استحصلت على جوازات سفر دون استعمالها، وبلغت هذه النسبة 69 في المئة، كما أن أعداداً كبيرة تفوق الـ15 ألف جواز سفر أُنجزت في مراكز الأمن العام ولم تُتسلم من أصحابها.

«العائلة التي لا يعمل أحد أفرادها في الخارج تموت موتاً بطيئاً ولا يشعر بها أحد» تقول ماريتا، وهي تضع حزام الأمان متأملة من نافذة الطائرة بيروت، التي غرقت في العتم والخراب، فلم تتعرّف عليها من الجو.

هروب دون خطة مسبقة

وإذا كان ارتفاع الطلب على جوازات السفر لا يؤشر بالضرورة إلى أعداد المهاجرين فإنه يرصد حجم استعداد اللبنانيين حالياً للرحيل. وهذا ما انطبق على حال أكرم جوهري، ففي أحد أيام ربيع 2021، حمل أمتعته وجواز سفره، وصعد الطائرة من بيروت إلى بغداد، دون خطة مسبقة، بحثاً عن عمل، بعدما بات راتبه في لبنان لا يعيل عائلة من طفلتين وأبوين كبيرين في السن.

لم يعد راتب أكرم البالغ من العمر 42 عاماً يساوي مئة دولار مع تدهور قيمة العملة اللبنانية بنحو %90. فاختار، على غرار العديد من اللبنانيين، السفر.

ترك عمله في لبنان، وشكلت بغداد الخيار الأكثر بديهية بالنسبة اليه «مدينة قريبة فيها حركة اقتصادية ناشئة، وتستقبل اللبنانيين بتأشيرة دخول على المطار».

ويروي أكرم من المقهى الذي بدأ بإدارته منذ نحو شهر وسط بغداد «لم يكن لدي الوقت الكافي لأبحث عن عمل في الخليج. كان لا بد أن أقوم بخطوة سريعة. جئت إلى بغداد وبدأت بالبحث عن عمل على إنستغرام»، إلى حين حصل على الوظيفة.

ورغم أنه قادر على تأمين معيشة جيدة لعائلته نتيجة عمله في بغداد، لكن ذلك يأتي بطعم من المرارة بالنسبة لأكرم. يؤلم الرجل كثيراً عدم قدرته على رؤية ابنتيه تكبران أمامه. ويقول «أحزن كثيراً لأنني لا أستطيع أن أشاهد ابنتي الرضيعة البالغة من العمر شهرين».

من بلد مأزوم إلى آخر

وقد تضاعفت حركة اللبنانيين إلى العراق مؤخرا، وزادت بشكل مطرد لا سيما في مجال القطاع الصحي، إذ ينطبق ذلك خصوصا على عشرات الأطباء اللبنانيين الذين يقدمون خدمات ويعتبرون زائرين في المستشفيات والمراكز الطبية العراقية، بحسب السفير اللبناني في بغداد، علي حبحاب.

ووفق السلطات العراقية فقد دخل أكثر من 20 ألف لبناني العراق بين حزيران 2021 وشباط 2022، بدون احتساب الزوار الذين يأتون إلى النجف وكربلاء.

ويبدو أن اللبنانيين لا يأبهون إلى الأزمة المعيشية العميقة التي تواجه العراقيين الغارقين هم أنفسهم في الفقر والبطالة وتدهور البنى التحتية، وقد شكل الترهل في القطاع الصحي في العراق وجهة مثالية للأطباء وخبراء التجميل اللبنانيين لدخول سوق غير مشبع غير آبهين لكونهم يغادرون من بلد مأزوم إلى بلد آخر مثقل بالأزمات.

ربع مليون مهاجر في 5 سنوات

بحسب تقرير مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت، فان موجات الهجرة الجماعية التي عرفها لبنان في تاريخه رافقت بتوقيتها فترات الحروب، إلا أن الحروب في لبنان لم تكن محركاً أساسياً للهجرة، وإنما الأوضاع الاقتصادية السائدة. وآخر الإحصائيات حول هجرة اللبنانيين تشير الى أن عام 2021 سجّل العدد الأكبر من المهاجرين والمسافرين خلال الأعوام الخمسة الماضية، فيما بلغت حصيلة المغادرين بين عامي 2017 و2021 اكثر من ربع مليون شخص.