IMLebanon

أبعد من المادة 80: المناصفة في الوظيفة العامة

 

مجلس النواب بإنتظار جلسة 17 تشرين لتفسير المادة 95 

بعد اقرار مشروع قانون موازنة العام 2019 في مجلس النواب، أُثير جدل حول المادة 80 التي تضمنها القانون من الناحيتين الشكلية والموضوعية. وسنحصر بحثنا هنا بالجانب الموضوعي من المادة دون الجانب الشكلي منها.

 

من الناحية الموضوعية اقرت المادة 80 حفظ حق الذين نجحوا في مباريات اجراها مجلس الخدمة المدنية للتعيين في بعض الوظائف في الادارة العامة من فئات مختلفة وكلها دون الفئة الاولى، بما يعني ان المادة 80 حصّنت حق الناجحين من السقوط ضمن المهلة المحددة في القانون للسقوط، ولكن المادة ذاتها لم تقرر تعيين الناجحين في الوظيفة التي نجحوا في المباريات التي أُجريت من أجلها، وهي لا يمكنها ان تفعل ذلك لان المشترع لا يمكنه ان يتدخل في عمل السلطة الاجرائية عملاً بمبدأ فصل السلطات، وبالتالي ستبقى مراسيم التعيين مجمدة في مكانها وستبقى المراكز في الادارة شاغرة طالما بقيت المواقف على حالها.

 

ولكن ماذا بشأن المطالبة بالغاء المادة 80 بقانون لاحق او بقانون موازنة العام 2020، هل ان ذلك يحل المشكلة ام ان المشكلة هي ابعد من المادة 80 ذاتها؟

 

نبادر هنا الى القول فوراً الى ان المشكلة هي أبعد من إلغاء او الابقاء على المادة 80 التي اضحت الاشهر بين المواد التي يتضمنها قانون الموازنة، ذلك ان كل الجدل الذي سمعناه بموضوع المناصفة في الوظيفة العامة غيّب صاحب الشأن عن الموضوع، وأعني ان الجدل الذي نسمعه غيّب عن الموضوع الادارة العامة التي كان المرشحون فازوا في المباريات التي حصلت لملء المراكز الشاغرة فيها. ذلك انه إذا الغيت نتائج كل المباراة فان المراكز في الادارة ستبقى شاغرة الى حين اجراء مباريات جديدة واعلان نتائجها، ولكن هل ان اجراء المباريات جديدة سيحل المشكلة ويؤمن التوازن بين الطوائف والمذاهب؟

 

لقد نشرت وسائل الاعلام بياناً احصائياً عن المراسيم التي جُمّدت وعدد الموظفين المعينين في كل منها، وهي تُظهر تفاوتاً ملحوظاً في عدد المعينين في كل مرسوم من ابناء الطوائف الاسلامية وابناء الطوائف المسيحية. والبيانات الاحصائية المتعلقة بعدد المعينين في كل مرسوم من كل طائفة في كلٍ من المباريات سالفة الذكر لا تظهر المشكلة الحقيقية التي يجب معالجتها، ذلك ان البيانات الاحصائية التي تضع المشكلة في موضعها الصحيح هي البيانات التي تبين عدد المرشحين من ابناء  كل طائفة الذين اشتركوا في ذات  المباراة ولذات الوظيفة، ومن خلال بيانات عدد المرشحين تظهر المشكلة على حقيقتها وهي تتمثل بان عدد المرشحين من ابناء الطوائف المسيحية هو ادنى بنسبة كبيرة من عدد المرشحين من ابناء الطوائف الاسلامية.

 

ومن ثم لو الغيت المباريات التي جمدت مراسيمها، أو لو لم يتضمن قانون الموازنة نصاً مماثلاً للمادة 80 وتركت نتائج المباريات تسقط بانقضاء المدة المحددة للسقوط وتم الاعلان عن مباريات جديدة لملء ذات المراكز الشاغرة فان الوضع لن يتغير، ذلك ان النسب بين عدد المرشحين من مختلف الطوائف والمذاهب سيبقى كما كان في المباريات التي جمدت مراسيمها، وتالياً لن تختلف نسب الفائزين فيها عن المباريات التي جمدت مراسيمها.

 

من هنا نستعرض الحلول الممكنة لتأمين ادارة لبنانية سليمة تهدف لخدمة المواطن اللبناني وتؤمن في نفس الوقت المناصفة او الحد من التفاوت الكبير في عدد الموظفين من ابناء الطوائف المسحية والاسلامية.

 

الحل الاول: ان نبقي المركز في الادارة شاغراً الى ما لا نهاية حتى تحصل مباريات يأتي فيها عدد الفائزين متوازنا بين الطوائف والمذاهب، وهذا الحل بعيد المنال.

 

الحل الثاني: إلغاء مجلس الخدمة المدنية وتالياً إلغاء المباريات كطريقة مثلى للتعيين في الوظيفة العامة؟ فنكون ألغينا أهم صرح أسس له المغفور له المرحوم الرئيس فؤاد شهاب في بناء الدولة الحديثة. ونكون احلّينا بذلك عنصر الولاء محل عنصر الكفاءة لدخول الوظيفة العامة، بل نكون قضينا أيضاً على مبدأ المساواة بين المواطنين والمنصوص عنه في المادة 7 من الدستور اللبناني، ذلك ان التعيين خارج اطار المباريات سيقتصر على أصحاب الحظوظ من أتباع السلطان، ويستبعد منه المواطن اللبناني الذي رفض ان يستبدل ولاءه للوطن بالولاء للزعيم المذهبي او الطائفي، وهم اكثرية اللبنانيين المغلوبين على أمرهم بسبب قانون انتخابي يجرّد صوتهم الانتخابي من قيمته الحقيقية.

 

الحل الثالث: هو ما جاء به إتفاق الطائف عام 1989، ومن بعده التعديل الدستوري الذي حصل بموجب القانون الدستوري رقم 18/90، في الفقرة ب من المادة 95 من الدستور ومؤداها:

 

«تلغى قاعدة التمثيل الطائفي ويعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى وما يعادل الفئة الاولى فيها وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة مع التقيد بمبدأي الكفاءة والإختصاص».

 

ولفهم ابعاد الحل الذي اعتمده اتفاق الطائف لجهة حصر المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في الوظيفة العامة بالفئة الاولى وحدها دون بقية الفئات الادنى، لا بد من إلقاء الضوء على سياق ظهور اية قاعدة قانونية في المجتمع.

 

أن القاعدة القانونية تنبت أصلاً وتولد من رحم الـحدَث الاجتـماعي كضرورة لتنظيـم العلاقات القانونـية الـمرتبطة بهذا الـحدث. فـالـحدث الاجتـماعي (Le fait social) هو أسبق بالظهور من القاعدة القانونـية، إذا أن هذه القاعدة لـم تظهر للوجود إلا عند البحث فـي تنظيـم العلاقات ضمن المجتمع، وينتـج عن ذلك أن القاعدة القانونـية، كقاعدة منظمة للعلاقات ضمن الـمـجتـمع، تـجد مادتها الأولـية في العلاقات الاجتماعية.

 

ومن ثم إذا عدنا الى القاعدة الدستورية التي ألغت المناصفة في الوظيفة العامة، باستثناء وظائف الفئة الاولى، لا بد من تبيان الحدث الاجتماعي التي هدفت تلك القاعدة الى تنظيمه.

 

ان الحدث الاجتماعي الذي هدفت تلك القاعدة لتنظيمه هو وجود إدارة عامة في لبنان، وتعيين الموظفين فيها عن طريق مباريات يجريها مجلس الخدمة المدنية لتعيين الاكفأ والأكثر تخصصاً لتولي الخدمة العامة في الادارة اللبنانية، وبالطبع ان المرشحين للاشتراك في مثل تلك المباريات هم المواطنون اللبنانيون من مختلف الطوائف والمذاهب؛ وضمن هذا الحدث الاجتماعي تطفو على السطح حقيقة ساطعة للعيان وهي تتمثل بفقدان التوازن في عدد ابناء الطوائف الذين يشتركون في المباريات، وبالاخص بين ابناء الطوائف الاسلامية وابناء الطوائف المسيحية. ومن الطبيعي ان تتأثر نتيجة المباريات بهذه الحقيقة فيأتى الناجحون من ابناء الطوائف الاكبر عدداً اكثر من الناجحين من ابناء الطوائف الاقل عدداً. إضافة الى الفارق في العدد بين المرشحين من ابناء تلك الطوائف هناك ايضاً اختلاف في مزاج ابناء الطوائف احياناً في الرغبة في تولي الوظيفة، وبالاخص في الدرجات الدنيا، ذلك ان هناك ابناء طوائف معينة قد تتوفر لها ظروف  او تفضل الانصراف الى اختيار العمل في القطاع الخاص بدل القطاع العام.

 

وتبعاً لذلك كان النص في القانون الدستوري رقم 18/90 على حصر المناصفة في الوظيفة العامة بوظائف الفئة الاولى تداركاً لما قد يؤول اليه وضع الادارة اللبنانية في حال الابقاء على المناصفة في جميع  الوظائف العامة بما فيها الوظائف الدنيا، ذلك ان الادارة اللبنانية ستصل عندئذٍ الى الشلل التام طالما ان التوازن سيبقى مفقوداً بل سيزداد حدة مع الايام بين عدد المرشحين من ابناء الطوائف الاسلامية وبين عدد المرشحين من ابناء الطوائف المسيحية، وتالياً طالما ان عدم التوازن سيبقى قائماً بين الناجحين من ابناء تلك الطوائف.

 

ولعله كان من الافضل لمن يحمل لواء المناصفة في الوظيفة العامة ويتخذ موقفاً سلبياً من خلال رفض تطبيق النص الدستوري وفق ما تم الاجماع فيه على فهم الفقرة ب من الدستور منذ حوالي عشرين سنة، ان يأتي بموقف ايجابي ويقول للبنانيين كيف سيحل مشكلة ملء المراكز الشاغرة في الادارة اللبنانية طالما ان فقدان التوازن الطائفي بين الفائزين في المباريات يزداد حدة يوماً بعد يوم؟

 

ولكن مشكلة لبنان اليوم هي في غياب رجال دولة، او على الاقل غياب المستشارين الذين يحملون همّ الوطن ويقدرون ابعاد الموقف الذي يشورون فيه على صاحب السلطان!!!