IMLebanon

المسيحيّون و”تشييد” سوريا الجديدة

 

 

تاريخ من الاضطهاد ومستقبل من الفرص

 

عانى المسيحيّون على مدى قرون في سوريا من الذمّية والاضطهاد والتهجير، فتقلّصت أعدادهم عبر التاريخ وانحسروا ديموغرافياً بشكل دراماتيكي. ولم تكن أحوالهم بخير في ظلّ أكثر من نصف قرن من ديكتاتورية آل الأسد التي امتهنت ترهيب أصحاب “الرأي الآخر” وأوغلت بدماء المعارضين، فارضة جموداً سياسياً قاتلاً. تبدّلت المعادلة جذرياً بعد انهيار “هيكل البعث” وفتِحَت أبواب من الفرص كانت موصدة سابقاً ومعها تحدّيات سياسية واجتماعية وثقافية هائلة أمام المسيحيين والأقليات الدينية والإثنية الأخرى، مع تربّع الإسلاميين على “عرش دمشق” في خضمّ مرحلة انتقالية لا أحد يعرف كم ستطول وما ستشهده من انتكاسات أو انفراجات.

 

 

 

تثير “الصبغة الإسلامية” للإدارة السورية الجديدة المفترض أن تكون موَقتة، مخاوف عميقة في أوساط المجتمعات المسيحية المتنوّعة والمتوزعة جغرافياً في “بلاد الشام”، إذ إن المسيحيين الذين قمِعوا وهمِّشوا كغالبية السوريين خلال حكم النظام السوري البائِد، يُريدون العيش بكامل حرّيتهم وكرامتهم وبمساواة تامة في الحقوق والواجبات مع مختلف شرائح المجتمع السوري التعدّدي، بعيداً كلّ البُعد من أي شكل من أشكال الذمّية و”أقنعتها” الخادعة ظاهرياً والعنصرية باطنياً، فمِن حق المسيحيين الذين يُعتبرون من “الشعوب الأصلية” في سوريا، أن يعيشوا كمواطنين درجة أولى أسوة بسائر السوريين من دون أي استثناء.

 

 

 

المطلوب من المسيحيين السوريين الذين قدّم أسلافهم تضحيات جسيمة لقرون وصمدت شريحة منهم رغم المِحن، الإسراع في تنظيم أنفسهم ضمن أحزاب سياسية تمثّل وجدانهم الجماعي وتعبّر عن هواجسهم وتطلّعاتهم، والخروج بـ “رؤية إستراتيجية مشتركة” تجسّد “مصالحهم الوجودية” وتحمل مشروعاً حضارياً لبناء سوريا الجديدة. قفول حقبة وانطلاق أخرى تحتّم السعي الدؤوب إلى المشاركة بفعالية في الحياة السياسية و”تشييد” سوريا الجديدة، بيد أن هذا “المسار التأسيسي” ما زال في بداياته وهناك الكثير من الصعوبات والمعضلات التي تبرز وتتكشّف وتطرح الكثير من علامات الاستفهام حول شكل سوريا وهويّتها ومدى احترامها للتعددية الطوائفية.

 

 

 

عِبر التاريخ بمآسيه وأمجاده تجزم أن الجماعات التي تنكفئ وتكتفي بالجلوس “على رصيف” الدرب الشاق لبناء الدول، تكون قد حَكمت على نفسها بالموت. أمّا تلك التي تريد المساهمة في كتابة تاريخ بلادها وتعبيد الطريق أمام أجيالها الصاعدة، فعليها اقتحام المشهد السياسي بكلّ جرأة وتمثيل نفسها بنفسها، وعدم التسليم بالأمر الواقع مهما كان سوداوياً، فإذا لم تتحرّك خوفاً من بطش أو ردود فعل انتقامية، تخسر “صوتها” قبل أن يُسمع، إلّا أنها تكسب فرصة لتحقيق ولو جزء يسير من غاياتها، إن بادرت وطالبت بما تعتبره “حقاً مقدّساً”، بصرف النظر عن المعوقات التي تواجهها.

 

 

 

المسيحيّون مطالبون أيضاً بالاستثمار في المرحلة الانتقالية الحسّاسة والمشاركة بكلّ ثقلهم في اللجان التحضيرية الموسّعة للمؤتمر الوطني المؤجّل حتى اللحظة، وفي صياغة الدستور الجديد للبلاد، وفي كلّ الاستحقاقات الانتخابية التي قد تنظّم مستقبلاً. وبينما تُطرح قضية حقوق الأقليات على بساط البحث في أكثر من عاصمة إقليمية ودولية، كان لافتاً ما كتبه نائب “حارس الأراضي المقدسة” الكاهن الفرنسيسكاني إبراهيم فلتس عن لقائه، إلى جانب شخصيات كنسية أخرى، مع القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) الذي يُحسن بعث “رسائله المُحنكة” إلى الخارج، بحيث كشف تأكيد الأخير له أنه “لا يعتبر المسيحيين مجرّد أقلية في سوريا لأنهم جزء لا يتجزأ من البلاد وقد لعبوا دوراً هاماً في تاريخها”.

 

 

 

لكن، وعلى الرغم من كلّ التطمينات والكلام المعسول، تبقى الأفعال أشدّ وطأة وأكثر تأثيراً على الأرض، حيث تسجّل تجاوزات وممارسات بالغة الخطورة تعيد التذكير بالنهج الوحشي للنظام السابق وتضرب العدالة الانتقالية وتهدّد بالانزلاق في مستنقع الثأر والثأر المضاد. كما تتناقض تعهّدات دمشق العلنية مع “التعديلات المؤدلجة” التي أجرتها وزارة التربية على المناهج التعليمية وأضفت عليها طابعاً إسلاميّاً متزمّتاً، فضلاً عن “أسلمتها” لكلّ الوزارات والمؤسّسات والإدارات والأجهزة قيد التشكيل.

 

 

 

إذا أراد ربّان السفينة فعلاً بناء دولة تتسع لكلّ مكوّناتها الدينية والإثنية واللغوية، وكسر “عجلة” الصراع الدموي على السلطة، لا مفرّ من تبنّي الفدرالية كمشروع حلّ للأزمة السورية المستعصية، لأن الفدرالية المنبثقة عن دستور لا يتخذ من “الإسلام” ديناً للدولة، تضمن بكلّ بساطة حقوق المسيحيين وجميع السوريين بكافة انتماءاتهم وخلفيّاتهم، وتجعلهم “شركاء متعاونين” بعيداً من منطق “الغالب والمغلوب” بعدما كانوا “أعداء متقاتلين”. وبالتالي، تنتشل الفدرالية سوريا من الحضيض وتضعها على سكة التعافي لتنهض بسواعد نسائها ورجالها، من دون أي “تمييز استعلائي” على أساس الدين أو العرق أو اللغة أو الجندر. أمّا بلا الفدرالية، فستتأرجح سوريا بين حكم مركزي مستبدّ وبين الفوضى أو التقسيم.