IMLebanon

«حرب مواقع» على تخوم الطوائف قبل «الإنهيار البناء»!

 

 

من مشهد غادة إلى تجاوز التأليف

 

تحت عنوان «مخاوف من انهيار لبنان» أدرج الاتحاد الأوروبي مسألة الوضع البالغ الحساسية على جدول أعمال اجتماعه في الساعات القليلة المقبلة.

 

ربما ما دفع الاتحاد إلى الكلام عن انهيار البلد، ما يحصل على الأرض، من استفحال للأزمات، واستيلاد أزمة تلو أزمة، على نحو يضاهي، أو يزيد عمّا يشهده وباء فايروس «Covid-19» أو كورونا، والذي تحوَّل إلى جائحة، من متحورات، بين انكليزية، وهندية، وبرازيلية، تجعل خيارات إعادة استئناف الحياة الروتينية في العالم بأسره، بالغة الصعوبة، والتعقيد.

 

تفيد التقارير الدبلوماسية اليومية لحكومات دول الاتحاد، فضلاً عن دول كبرى كالولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد الروسي، ودول ذات نفوذ أو تأثير في الإقليم كمصر ودول الخليج وإيران، وحتى تركيا، ان الوضع السياسي، بلغ حدّ «الإنسداد»، أو على شفا حرف من الإنهيار، الأمر الذي يعني ان البلد، لن يعود قائماً وفقاً لوزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، وربما يزول عن الخارطة..

 

مصطلح انهيار في الحياة السياسية والدبلوماسية الدولية، بدأ مع انهيار الامبراطورية العمانية، ومع تلمس ملامح الإنهيار الوشيك، أعدت دول أوروبا الاستعمارية: بريطانيا، فرنسا، وروسيا القيصرية، والدول الأخرى النافذة كالامبراطورية البروسية- النمساوية (ألمانيا الرايخ) الخطط والترتيبات، للتصرف حين يحين ميعاد الانهيار.. وباقي القصة معروف، في كتاب التاريخ، والوثائق الدبلوماسية.

 

مع ظهور مؤشرات انهيار الامبراطورية السوفياتية الشيوعية، دول المعسكر الشرقي، الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت الترتيبات الكبرى، لرؤية حال العالم بعد حدوث الإنهيار.. الذي شكل مجموعة هائلة من الارتدادات، عبرت عن نفسها، بتحولات هائلة، من ولادة دول منفصلة في آسيا، وصولاً إلى تفكك يوغوسلافيا السابقة، بعد حرب كوسوفو- كرواتيا- الجبل الأسود (صراع الإسلام مع الكاثوليك، والأرثوذكس).

 

امتد مشهد الإنهيار الكوكبي إلى دول الشرق الأوسط العربية، فغرقت ليبيا في الأزمات، وانقسمت دولة العراق الموحدة إلى أقاليم ثلاثة، كل منها يمكن ان يُشكّل دولة، فضلاً عن انتقال الحرب المسلحة إلى سوريا، التي تعيش وضعاً خطيراً في ضوء السيطرة التركية في الشمال، ونهوض القوة الكردية إلى مشروع انفصال (قسد) بكامل أسلحته على الأرض، فضلاً عن المخاطر المحدقة بالجنوب السوري (الجولان ومنطقته) حيث الضربات الإسرائيلية الجوية تنبئ عن ان لا ترتيبات على هذه الأرض (سوريا الطبيعية الحالية) بمعزل عن موافقة هذه الدولة المغتصبة (اسرائيل) التي تحوّلت في غضون عقود قليلة إلى دولة احتلال، ونفوذ بقوة التفوّق العسكري، وتكنولوجيا الحرب، التي يزودها بها المعسكر الرأسمالي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية وريثة بريطانيا العظمى، في الولايات العربية، التي كانت من حصة التاج البريطاني، خلال حقبة الانتداب، وما سبقها وما تلاها.

 

نشأ لبنان الكبير، بضم لبنان الصغير (جبل لبنان- نظام المتصرفية، إلى لبنان الولايات العثمانية، والعربية، والفرنسية لاحقاً) هكذا تشكّلت خارطة لبنان الكبير، من النهر الكبير شمالاً إلى رأس الناقورة جنوباً..

 

لا حاجة لتتبع نظام اللاستقرار في البلد الناشئ، الذي نجح بشعارات حكومة رياض الصلح الأولى، بعد نيل الاستقلال عام 1943، بتحييده عن الصراعات بإعلان انه لن يكون ممراً ولا مستقراً للاستعمار أو الإعتداء على سوريا..

 

نجح لبنان الكبير، بعد اتفاقية الهدنة 1949، التي تلت حرب النكبة، وقيام دولة إسرائيل، بتجنب ثلاثة حروب عربية- اسرائيلية: حرب السويس (1956) حرب الـ67 (أو النكسة) وحرب 1973، المعروفة بحرب رمضان أو تشرين أول..

 

لا حاجة لاستعراض تاريخ الاضطراب اللبناني والقلائل التي شهدها.. لا بدَّ من قفزة إلى مرحلة ما بعد إتفاق الطائف، وما نتج عنه من ترتيبات في الداخل، وعلى صعيد العالم العربي ودول الإقليم.

 

في الداخل، حدث الخلل، الذي يشكو منه الموارنة، والذي تكرّس، بإقامة مناصفة، في بناء الدولة، بعيداً عن قوة النفوذ الحزبي اليميني التاريخي، بقوة الرعاية السورية، التي تحوّلت إلى وصاية ثم احتلال، وخرجت قواتها المسلحة، مع أجهزة الأمن والاستطلاع (المخابرات) في الظروف المعلومة، والتي تشبه عمليات الطرد المنظم، بقوة الوضع الدولي، وحجم الغضب الشعبي والعربي، الذي تبع اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005.

 

وفي الخارج، تشكّلت قوى نفوذ إقليمي توزع بين العنصر العربي (سوريا- السعودية- مصر إلخ) والعنصر الأعجمي (إيران- الجمهورية الإسلامية ومن يدور في فلكها)..

 

تجنّب لبنان الحرب الأهلية مجدداً، والتي كانت مدرجة تحت عنوان الفتنة السنيَّـة- الشيعية،  وشعر الجانب المسيحي ان الفرصة حانت لاستعادة دور مفقود في تركيبة الدولة ومؤسساتها- عاد العماد ميشال عون من المنفى- ضمن أجندة، بالغة الوضوح، بعد خروج الجيش السوري.. المسيحي الأقوى، في الشارع والمجلس النيابي، أعاد تقييم الموقف. الحنق الشيعي من محاولات العزل قبل الـ2005، وبعدها، جعلته، يضع في حساباته بناء تحالف مع الفريق الشيعي الأقوى: حزب الله، لاستعادة ما يسميه: تمثيل المسيحيين بممثليهم الحقيقيين..

 

حقبة عاصفة من التحولات والتداعيات، عنوانها إيصال عون شخصياً، ولو على مشارف مرحلة ما يسمى «أرذل العمر» إلى سدة الرئاسة الأولى.. قوة مسيحية ذات تمثيل نيابي، وفي الحكومة، وعلى المستوى الرسمي (أعلى الهرم من شأنها أن تعيد الإستقرار إلى واجهة الاهتمام، مع تزايد الهجمة الأميركية، على المحور الإيراني.. والذهاب مباشرة إلى تصفية الحساب مع «حزب الله» كقوة لبنانية مسلحة، تخدم، من زاوية التقييم الغربي، مصالح النفوذ الإيراني، شرقي المتوسط، من لبنان إلى سوريا والعراق، أو كان يسميه العاهل الهاشمي «الهلال الشيعي»…

 

من وجهة نظر الرئيس سعد الحريري، وهو المكلف اليوم، تشكيل حكومة «مُهمة»، تحوّلت إلى حكومة مستعصية على التأليف، كانت تسوية عام 2016 مع التيار الوطني الحر، محاولة لمنع انحلال الدولة، أو انهيارها. لكن الوقائع المؤكدة، الممارسة والتجربة، دلت، على نحو قاطع، ان هذه التجربة في التسويات، كانت بالغة الفشل الذريع..

 

وعليه، تحوّلت لحظة تأليف الحكومة، بعد الحصول على التفويض، إلى لحظة «ثأر» من آثار التسوية الخطيرة، على فلسفة إتفاق الطائف، والذي أضحى دستور البلاد، على وقع طرد عون، الرئيس الحالي لنظام الطائف، من بعبدا إلى باريس.

 

ليس الاشتباك السياسي الداخلي، المغلف باشتباك دولي- إقليمي بالأمر السهل على البلد، الذي صار بمثابة «البقرة التي وقعت على الأرض».. والغريب في الأمر ان «السلاخين الكثر» هم من الأبناء الذين رضعوا من حليب هذه البقرة، منذ بداية التسعينيات، إلى اليوم، واتخموا، من السرقات والسمسرات والفساد، وجني الثروات، على طريقة «النهب الشرعي» مع وصول الميليشيات المسلحة، إلى موقع القرار.. خلعت رداء الحرب، وارتدت الياقات البيضاء والزرقاء، وحتى السوداء، والصفراء، والأرجوانية، بعقل الحرب والنهب..

 

وكان ما كان، مما لست أذكره.. فلا تظن خيراً.. وإسأل عن الخبر..

 

من الجليّ، ان مشهد القاضية غادة عون، وهي النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان، وهي تقف امام مدخل شركة «مكتف» للصيرفة، في عوكر، من دون ان تتمكن من الدخول بسبب قوة الاقفال والاسوار الحديدية، يدل على ان مفهوم الدولة في لبنان انهار تماماً.. وتحولت مواقع السلطة في دولة، كانت حتى الأمس القريب تعرف بدولة المؤسسات، آخذة في الصراع والتمترس، والخندقة، وراء تيارات الطوائف القوية، التي نظر إلى ضرورة ان تتولى حكم البلد، النائب جبران باسيل، الذي يقاتل تياره على الأرض الدولة، بثوب قاضية، وبحراسة «عناصر أمنية» شرعية، فريقاً آخر من الدولة، الأمر الذي جعل الأكاديمية اللبنانية، وهي وزيرة العدل في حكومة «إعلان الإفلاس»، وهي في مرحلة تصريف الاعمال، تتباكى على الوضع، وتقول انها لن تقف مكتوفة الأيدي، والتفرج على المهزلة..

 

ما هي المهزلة؟ عجز القضاء الذي يتطلع إليه اللبنانيون، لوضع يده على ملف اللاقانون في البلد، من سرقة إلى نهب المودعين، إلى تهريب الدولارات، إلى الخارج، إلى نهب مقدرات الدولة، التي كانت «بقرة حلوب» لأصحاب البطون الفارهة اليوم، الذين بالغوا في تجاوز معنى الدولة، ومعنى الدستور، ومعنى القانون، والعزف على وتر «التشاطر والتذاكي».. وهم ماضون في اللعبة القذرة..

 

من الصعب بمكان رؤية حكومة موحدة، في بلد مقسم.. (إذاً، فالمنتظر مزيد من التآكل، وإبراز العضلات).

 

والسؤال: هل حانت لحظة إعلان الانهيار، والتحول إلى «حرب مواقع» واسعة أو محدودة، لاستقدام تدخل يُعيد رسم تخوم المصالح للطوائف، في بلد تعمه اليوم الفوضى، وتتهاوى مؤسساته الواحدة تلو الأخرى، في صراع تجاوز «التسويات» إلى إعادة بناء وقائع الوحدة، أو بدائل الانهيار المنتظر!