IMLebanon

هل مَن يشدّ اللِّجام؟

 

الدكتور ايلي أبو عون أستاذ محاضر في مادة حقوق الانسان

ليس مفاجِئاً أن تتسبّب جريمةُ قتل الشابة ريّا الشدياق في مزيارة بردّاتِ فعلٍ عنيفة تجاه السوريين في لبنان، عمّالاً ولاجئين. ولا يمكن إلقاءُ اللوم على أهل الضحيّة الشابة وأصدقائهم، فالمصاب أليم واحترامُ المشاعر واجبٌ أخلاقي.

إلاّ أنّ ردّات الفعل «الجماهيرية» على الجريمة تطرح السؤال مجدّداً عن جدوى المقارَبة التي تعتمدُها الدولة اللبنانية (بكافة سلطاتها) وغالبية صنّاع الرأي قي لبنان من أعلام ورجال دين ووجوه إجتماعية وغيرها منذ 2012. والتساؤل لا ينبعُ من التشكيك بأثقال أزمة اللجوء السوري على لبنان التي تخطّت بلا ريب الحدَّ المعقول، لكن ألا تُختبر حكمةُ وأخلاق وكفاءة الأشخاص والقيادات والجماعات عند المحن والمصاعب؟ وماذا تكون ميزتنا أو يكون فضلنا إذا اعتمدنا الصواب فقط في الأوقات الطبيعية؟

 

وإن يكن التركيزُ اليوم على البعد المحلّي للمشكلة لا بدّ من التذكير بتقاعس الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لعدم تثبيت مبدأ «تقاسم العبء الديمغرافي» مع لبنان وترجمة الكلام المعسول عن التضامن معه خططاً تنفيذيّة تهدف الى تصحيح الخطأ الذي ارتكبته المفوّضية العليا للاجئين بإعطاء جميع الوافدين السوريّين صفة اللاجئ من دون التدقيق في ملفاتهم وبالتالي التمييز بين اللاجئ والمهاجر الاقتصادي (المعروف تاريخياً بالعمالة السورية في لبنان) والى تمويل وتنفيذ برامج إعادة توطين لنسبٍ منطقيّة من اللاجئين مقارنةً مع النسب الزهيدة الحالية.

 

ولكن بالتوازي مع التقاعس الدولي، أبرزت السنواتُ الأخيرة عناصرَ ضعف ذاتية ضمن تركيبتنا المجتمعية والسياسية تتخطّى مفاعيلها أزمة اللجوء السوري ولا تُنذر بأنّ لبنان، دولةً ومجتمعاً، يتصرّف على مستوى المسؤولية الأخلاقية المطلوبة.

 

وتأتي هنا بالدرجة الأولى الخفّة التي تعاملت بها السلطات اللبنانية مجتمِعةً مع موضوع اللجوء السوري، ومنها على سبيل المثال لا الحصر فتح المجال أمام اعتبار أيّ سوري في لبنان بمثابة لاجئ ولاحقاً محاولة التعويض عن الخطأ بآخر أكثرَ فداحة تمثّل في إجراءات دخولٍ للسوريين تكتنفها الضبابيةُ وتشجّع الدخولَ غير الشرعي والفسادَ على المعابر الحدودية. و لم يزد في الطين بلة إلّا قرار عدم تسجيل الولادات الذي يؤدّي حتماً الى بناء جسم من المولودين الجدد المجرَّدين من أيّ أوراق ثبوتية، ما يخلق عوائق أمام ضمّهم الى قوافل العائدين الى سوريا.

 

في الإطار نفسه، تكمن ذروةُ الرداءة في العناد غير المفهوم بعدم إصلاح قانون العمالة الأجنبية الذي كان يمكن أن يوفّر مرجعية مفيدة للتعامل مع العمال الأجانب في لبنان- السوريين وغير السوريين- من خلال إجازات عمل وإقامات سنويّة بناءً على معايير تشمل مجال العمل (إذا كان مجالُ العمل لا يحتاج عمالةً أجنبية لا تُعطى الإجازة) والسجلّ العدلي والموافقة الأمنية.

 

أما المستوى الآخر فهو المستوى البلدي. وهنا ظهرت نقاطُ ضعف كثيرة منها عدم استعداد معظم البلديات لإستخدام الخبرات الموجودة لدى إختصاصيّين لبنانيّين ما أدّى الى إجراءاتٍ مرتجَلة وغير فعّالة. و هنا لا بدّ من تأكيد واجب المجالس البلدية، كهيئاتٍ منتخَبَة، حماية نطاقها البلدي والمقيمين فيه من خلال إجراءات تنظيمية. ولكن ألا يمكن التفكير في إجراءات لا تستهدف جنسيّة أو مجموعة معيّنة، بل تكون سارية المفعول على كل الأجانب. فمثلاً تنظيم الإيجارات مهمّ جداً، ولكن لماذا يطبَّق فقط على السوريين؟ لماذا لا يُطبَّق على جميع الأجانب؟ ففي بلدان كثيرة منها القريبة (الأردن مثلا) ومنها البعيدة، تطبِّق بعض الإجراءات (موافقة مسبَقة لتملّك الأجنبي مثلاً) على جميع الأجانب وليس على فئة معيّنة.

 

إنّ حادثة مزيارة من الأمثلة الجيدة لتظهير واقع عدم كفاية البلديات في بعض الأمور وعدم جهوزية الحكومة للتعامل الجدّي مع المخاطر. فمن الطبيعي مثلاً أن يثأر المجتمع المحلّي لجريمة بشعة كالتي حدثت في مزيارة. ولكن هل من الممكن التصوّر أنّ كل مزيارة وطاقاتها وكفاياتها لم تجد سبيلاً لتفادي عمليات الثأر إلّا بترحيل مئات السوريين بالشاحنات في غضون ساعات؟ ألم يكن ممكناً نشرُ وحدات أمنية اضافية وامتصاص الغضب، المفهوم، من خلال اتّصالاتٍ وضماناتٍ كما تفعل الأجهزة الأمني، مشكورة، في مناطق لبنانية أخرى؟ وإذا لا تستعمل في حالات كهذه الحالة، ما الجدوى من كل المشاريع والتدريبات على الشرطة المجتمعية والتعامل مع التحرّكات المجتمعية وغيرها؟ و مَن يحاسب على التقصير والهدر في هذا المجال؟

 

أخيراً وليس آخراً، يأتي دورُ صنّاع الرأي في لبنان. ففي السنوات الأخيرة لوحِظ انخراطُ معظمهم في الحملات المعادية للسوريين دون سواهم. ولكنّ المعطيات الموضوعية تفيد أنّ المخاطر الناجمة من وجود السوريين (لاجئين وعمّالاً) ليست مختلفة أو أكثر من المخاطر المرتبطة بجنسيات أخرى. فعكس ما أشيع أخيراً لا توجد إحصائياتٌ تدلّ على أنّ نسبة الجريمة لدى السوريين أكثر منها مقارنةً مع أيّ جماعة أخرى مقيمة على الأراضي اللبنانية؟ ولا تشير الأرقامُ الى أنّ نسبة الإرهابيّين من بين السوريين أكثر من الجنسيات الأخرى. وفي كل الحالات هل يعكس الموقفُ المعادي للسوريين الأخلاقَ التي نتغنّى بها كلبنانيين وكمسيحيين تحديداً؟ هل استبدالُ مبدأ محاسبة الجهات اللبنانية المقصِّرة بمبدأ العقاب الجماعي حيث تعاقب جماعة كاملة بسبب جريمة يرتكبها أفراد هو ما نريد تشجيعه؟ وهل إنّ تغذية العداوة المجانية وتهييج مشاعر الكراهية ضد مئات الآلاف من السوريين هو مفيد للبنان وللمجتمع اللبناني على المدى المتوسط والطويل حتى لو فرضنا خلوَّ لبنان من السوريين يوماً ما؟

لقد دفعنا أثماناً باهظة نتيجة القرارات الإرتجالية منذ الاستقلال ونتيجة التقصير وسوء الأداء وعدم مساءلة المعنيّين، والآن يتمّ ذرّ الرماد في عيوننا لنكملَ في منحى عدم المساءلة والطريقة الوحيدة لتعزيز هذا المنحى هي باستثمار وتأجيج مشاعر الخوف وغريزة الكراهية. أما المشكلة الحقيقية فتكمن في مكان آخر. فهل مَن يشدّ اللجام لتفادي الوقوع في المحظور؟