IMLebanon

إدارة الضرائب البريطانية متهمة بمحاباة المشاهير والأثرياء

HMRC-HM-Revenue&Customs-UK-Britain-tax

توم بورجيس وفانيسا هولدر

وضعت الملكة سكّينتها وشوكتها جانباً والتفتت نحو محاورها، وكان هناك تعبير جاد يعلو وجهها. بيتر أوسوليفان، مُعلق سباق الخيول، كان يدافع عن قضية صديقه، الفارس الأسطوري ليستر بيجوت. كان بيجوت قد أنهى للتو محكومية لمدة عام في السجن بتهمة الاحتيال الضريبي، لكن أوسوليفان شعر أن القرار بتجريد صديقه من لقب الفروسية كان خطوة أبعد من اللازم. ملكة بريطانيا، المُحبّة للسباقات، لم تتأثّر. قالت، وفقا لما يتذكره أوسوليفان في مقابلة معه بعد أعوام: “أنا أحب طريقة طرحك للأمر. لكنه كان مُشاكساً إلى حد ما، كما تعرف. لم يكُن مشاكساً إلى حد ما فقط، بل كان غبياً جداً”.

لو أن مُحصّل الضرائب احتفظ بالجوائز، لكان الغطاء الذي يرتديه بيجوت في السباق قد احتل مكان الصدارة. يقول مسؤولو ومحامو الضرائب السابقون في المملكة المتحدة إن إدانته في عام 1987 بالاحتيال الضريبي على مبلغ 3.25 مليون جنيه أثار حملة الكشوف الضريبية في قطاع السباق. ويتذكّر أحد مفتشي الضرائب السابقين “موكبا من الرجال صغار القامة يأتون إلى المكتب” للكشف عن الدخل غير المُعلن.

لكن في الأعوام الـ 28، منذ دخول بيجوت إلى السجن، مصلحة الدخل الداخلي – و”إدارة صاحبة الجلالة للإيرادات والجمارك”، كما أصبح اسمها بعد عملية الدمج مع سلطة الجمارك والضرائب قبل عقد من الزمن – صارت رمزاً لنظام ضرائب يرى كثيرون أنه يتساهل مع الأغنياء، والمشاهير والأقوياء. مع نشر المختصين “السحرة” في الحي المالي في لندن خِدع الضرائب الجريئة، ومع انتقال ملكية العقارات الرئيسة في لندن إلى شركات وهمية في الخارج، كان يبدو أن مصلحة الضرائب غير مستعدة أو غير قادرة على تطبيق القانون. على مدى أعوام من الركود والتقشّف، سلسلة من الفضائح بشأن تعامل إدارة صاحبة الجلالة للإيرادات والجمارك مع الأشخاص الأغنى أعطت وزناً لأولئك الذين يجادلون بأن البريطانيين ليسوا، في الواقع “كلهم في الهم بريطانيين”.

كتب جوليون موم، وهو محامي ضرائب بارز: “كان هناك شك متزايد يتعلّق بوجود قاعدة واحدة للمتهربين من الضرائب الأغنياء الذين يستفيدون من الإعفاءات وقرارات السياسة على حد سواء، لتفادي المُلاحقات القضائية وقاعدة أخرى لبقيتنا”. وقارن الفشل في مُلاحقة الجميع، باستثناء واحد من آلاف أصحاب الحسابات الذين تم كشف أصولهم في الخارج علناً بسبب تسريب في شباط (فبراير) الماضي من فرع بنك إتش إس بي سي في سويسرا، بإعلان إدارة صاحبة الجلالة للإيرادات والجمارك التي طنطنت بالإدانة العام الماضي لإحدى الأمّهات من بلدة مارجيت بتهمة الاحتيال بالمطالبة بمدفوعات الرعاية الاجتماعية غير المُستحقّة لها.

تشديد الخناق

الآن إدارة صاحبة الجلالة للإيرادات والجمارك تستعد لخوض الحرب ضد مُتهرّبي الضرائب الأغنياء، إذا صدقنا ما يقوله الوزراء وكبار مسؤولي الضرائب. في ميزانية تموز (يوليو) قال وزير المالية، جورج أوزبورن، إن إدارة الإيرادات والجمارك ستحصل على 800 مليون جنيه، موزّعة على الأعوام الخمسة المقبلة، مع هدف زيادة عدد قضايا التهرب الضريبي “الخطيرة والمُعقدة” التي تجلبها كل عام ثلاثة أضعاف لتصبح 100 قضية. وستكون هناك صلاحيات جديدة في المستقبل تشمل التهم الجنائية التي يُمكن إصدارها بحق الشركات التي تتهرب من الضرائب، ومستشارون لمساعدتهم على القيام بذلك، وقواعد تجعل من السهل إدانة المُتهرّبين من الضرائب في الخارج، ونظام عالمي لتبادل المعلومات الضريبية يقدم لمحة عن الملاذات الضريبية الأكثر سريّة – بما في ذلك جُزر فيرجن البريطانية، وجُزر كايمان وجيرسي؛ الأراضي التي الملكة هي رئيس الدولة فيها.

في تجمّع لمسؤولي إدارة الإيرادات والجمارك في وزارة المالية في تموز (يوليو)، لاحظ مستشارو الضرائب المُحنّكين تغيّراً في المزاج. بفضل الشجب العام من قِبل مارجريت هودج ولجنة الحسابات العامة التي ترأسّتها حتى انتخابات أيار (مايو)، أصبحت إدارة الإيرادات والجمارك الهدف الرئيس لغضب عام بسبب اعتقاد بأن دفع الضرائب كان اختيارياً إلى حد كبير بالنسبة لأولئك الذين يُمكنهم دفعها. وقد استنكر المُتظاهرون صفقات ضرائب “غير شرعية” مع فودافون وجولدمان ساكس. والمزاعم بوجود مصالح مشتركة بين إدارة الإيرادات والجمارك وبين شركة كيه بي إم جي KPMG، وشركة برايس ووترهاوس كوبرز PwC وشركات المحاسبة الكبرى الأخرى التي تعمل على تعزيز “الكفاءة الضريبية” لا تعمل سوى على تعميق الانطباع بأن الحارس كان يتعاون مع اللصوص. بعد ذلك جاءت المشاهد المُخزية هذا العام للإدارة وهي تُكافح لفتح بريدها والردّ على هواتفها.

يبدو أن الحملة الجديدة للمزيد من المُلاحقات تُشير إلى تحوّل – في الخطاب على الأقل – من أعوام من التشديد على نهجها “التعاوني” مع دافعي الضرائب الرئيسين إلى شيء شائك.

ديفيد جاوك، مسؤول الضرائب في وزارة المالية، قال في ذلك اليوم: “إن رسالتنا للمتهرّبين من الضرائب واضحة وبسيطة. إدارة الإيرادات والضرائب تضيق الخناق عليكم، لذلك إما أن تتقدّموا الآن وإما أن تواجهوا عقوبات أكثر صرامة، مدنية وجنائية في آن معا”.

وهذا كما يقول مختصو ومحامو ومسؤولو الضرائب، هو المُعضلة بالضبط. بشكل صارم، صلاحيات الإدارة ليست لتطبيق العدالة، ناهيك عن الإنصاف. صلاحياتها هي لجلب الدخل – أكثر من 500 مليار جنيه من الدخل سنوياً. التسويات المدنية التي يُمكن أن تشتمل على غرامة تصل إلى 200 في المائة من الضريبة المُستحقّة تميل لجلب أموال أكثر من المُلاحقات القضائية المُعقدة التي تستغرق 44 شهراً في المتوسط دون أي ضمان لدفع الضرائب في نهاية المطاف.

لكن مثل هذه التسويات تُخاطر بتعميق الشعور بأن إدارة الإيرادات والجمارك تتساهل مع المتهرّبين من الضرائب المُتمرّسين. جيمس بولوك، رئيس قسم التقاضي والامتثال في شركة بينسينت ماسونز للمحاماة في لندن، يقول: “على مدى الأعوام العشرة الماضية، كانت الحكومة تقول للإدارة: هذا هو النوع من الأشخاص الذين يجب مُلاحقتهم. لكننا لم نشاهد هذا وهو يحدث. هل تُريد المال أم تُريد تشجيع الآخرين والحصول على الغنائم؟ أنت تحصل على كمية أكبر من أموالك من خلال المسار المدني”.

ويُضيف: “من الناحية العملية، من الصعب وضع أي شخص في السجن بتهمة الاحتيال الضريبي، وذلك بسبب الحاجة إلى إنشاء عُنصر معنوي مطلوب لإثبات الاحتيال”. للحصول على الإدانات، يجب أن تُظهر النيابة العامة أن المُتّهمين لم يتهرّبوا من الضرائب فقط بل فعلوا ذلك عمداً.

ولاحظ مستشاور الضرائب المحنكون أن مصلحة الدخل أجرت تسوية مرتين مع بيجوت. ولم توجه الاتهامات إلا عندما تم اكتشافه للمرة الثالثة. وكان الفارس قد أرسل شيك التسوية من حساب غير مُعلن عنه – وهي على ما يبدو الخطوة “الغبية” التي ذكرتها الملكة. نجاحات أخرى لمصلحة الإيرادات تبعت، كان أكبرها في عام 1993. مايكل هانت، العضو المُنتدب السابق في الفرع البريطاني لشركة صناعة السيارات اليابانية، “نيسان”، حصل على حُكم بالسجن لمدة ثمانية أعوام لدوره في مُخطط دام 15 عاماً لتضخيم تكاليف استيراد السيارات التي خدعت مُحصّلي الضرائب في مبلغ مقداره 55 مليون جنيه.

بعد ذلك، يقول جوناثان فيشر، الذي كان المحامي الدائم لمصلحة الدخل من عام 1991 حتى عام 2003، إنها “ضلت طريقها نحو عام 2000 واتّجهت نحو أهداف أصغر”.

ويُضيف: “في الأعوام الأخيرة، كان ينبغي أن تقضي مصلحة الدخل مزيدا من الوقت في محاولة للحصول على واحدة أو اثنتين من غنائم الشركات. أعتقد أنهم اتخذوا قراراً واعياً. كل شيء يتعلّق بارتفاع تكاليف التحقيق ومُلاحقة هذه القضايا”.

تدريجياً، حولت إدارة الإيرادات والجمارك اهتمامها إلى ما يدعوه المحامون “القطوف الدانية”. لكن مع دخول المملكة المتحدة وغيرها من الاقتصادات المُتقدّمة في فترة ركود بعد عام 2007، أصبح التهرّب الضريبي ومخططات التهرب من الضرائب القانونية، تتصدر العناوين الرئيسة.

في عام 2012، الممثل الكوميدي جيمي كار وجد أن سلوكه يُسمّى “خطأ أخلاقيا” من قِبل رئيس الوزراء ديفيد كاميرون بعد أن تبيّن أنه كان قد استخدم نظاما قائما في جيرسي لحماية الدخل من الضرائب. وتبعت ذلك سلوكيات مُخجلة أخرى من المشاهير.

المسؤولية القانونية

مع استمرار التقشّف، يتم البحث مرة أخرى عن الغنائم الكبيرة. قاعدة “المسؤولية القاسية” الجديدة المُقترحة من شأنها جعل الجرائم الضريبية في الخارج أقرب إلى مخالفات قيادة السيارات. تماماً كما يتم مُساءلة السائق عن السرعة بغض النظر ما إذا كان يفعل ذلك للمتعة، أو اللحاق بولادة ابنه، كذلك سيتم مُساءلة دافع الضرائب عن التهرب الضريبي بغض النظر ما إذا فعل ذلك عن طريق المصادفة أو عن قصد. لكن بعض محاميي ومختصي الضرائب يعتبرون قاعدة المسؤولية القاسية صارمة جداً. وأضاف الوزراء فقرات شرطية إلى القواعد المُقترحة، بما في ذلك قاعدة “للأعذار المعقولة”.

لو أن حُكم المسؤولية القاسية كان موجوداً في عام 2012، فربما كان قد أعفى إدارة الإيرادات والضرائب من الهزيمة المُحبطة. فقد شنت محاولة فاشلة لجعل هاري ريدناب هو ليستر بيجوت الجديد. مدير كرة القدم – الذي كان يُشاع في ذلك الوقت أنه من المُحتمل أن يتولى قيادة الفريق الوطني لإنجلترا – أصبح طليقاً بعد أن برأته هيئة مُحلّفين في محاكمة بمليون جنيه من تهمة إيداع 295 ألف دولار “عمداً وبطريقة غير شرعية” في حساب في موناكو على اسم كلبته روزي.

احتمال تطبيق قاعدة المسؤولية القاسية يثير أيضاً المخاوف حول الأهداف المحتملة. يقول راي ماكان، أحد كبار مُفتشي الضرائب السابقين الذي يعمل الآن مستشارا ضريبيا في شركة نيو كوادرانت بارتنرز: “إذا سألت الأشخاص في وحدة التحقيقات الجنائية في إدارة الإيرادات والجمارك عمن يرغبون في مُلاحقته، جو السبّاك أم قادة الصناعة، دائماً فسيقولون قادة الصناعة. لكن حجم تلك المهمة ضخم”.

السلطات تميل لمحاولة إنجاز “قضية الأجيال لجلب هدف كبير” لكن “هذه الأشياء كثيفة تماماً بشكل كبير في استخدام الموارد، حيث إن مصلحة الدخل ليس لديها الموظفون اللازمون لذلك، وهيئة المُحلّفين تحتاج إلى أن تكون مُقتنعة”. نتيجة لذلك، يقول ماكان: “مصلحة الدخل دائماً ما كانت تختار، ودائماً ستختار، الأهداف الأضعف، حيث يكون من الأسهل إثبات الاحتيال”.

ويبدو أن البيانات المُحدودة المُتاحة عن المُحاكمات تدعم مثل هذه المخاوف. فبين عامي 2011 و2014، علمت شركة بينسينت ماسونز من خلال حرية طلب المعلومات، أن عدد المُتهرّبين من الضرائب الذين تم إرسالهم إلى السجن ارتفع بواقع الثُلث ليُصبح 220 شخصا سنوياً. مع ذلك، متوسط عقوبة السجن بتهمة التهرّب الضريبي الجنائي انخفضت بواقع الثُلثين خلال الفترة نفسها، من نحو ثلاثة أعوام ونصف إلى أقل من عام ونصف.

في الخط الأمامي للحملة من أجل مزيد من المُلاحقات القضائية ستكون هناك وحدة جديدة تجمع بين أقسام التحقيقات الجنائية والمدنيّة في إدارة الإيرادات والجمارك تحت إدارة سايمون يورك، مسؤول الضرائب البارز الذي يحظى بتقدير كبير من قِبل نظرائه. هذا، بحسب ما يتوقّع بعض محاميي الضرائب، سيجعل من الأسهل على المُحقّقين استلام القضايا التي تبدأ في شكل خلافات مدنيّة والضغط بدلاً من ذلك لتوجيه اتهامات جنائية.

تحدّي إدارة الإيرادات والجمارك لتصوير مُخططات الاستثمار التي كان يتم استخدامها لتخفيض الضرائب يظهر باعتباره ساحة المعركة الرئيسة لجهودها الرامية إلى إثبات أن تجنّب دفع الضرائب يُمكن أن يتحوّل إلى تهرّب عندما تكون محاسبة الأشخاص المعنيين لا تشبه كثيراً المعاملات التجارية الفعلية. لكن هناك محاولة لتحويل الخلاف حول مُخطط لتجنّب دفع الضرائب قدمته الشركة الاستشارية، مونبلييه، إلى إدانة جنائية انهارت في أيلول (سبتمبر) الماضي لعدم كفاية الأدلّة.

إن تعاطف أوزبورن مع إدارة الإيرادات والجمارك قد لا يكون كما يدل ظاهره. حملة التنفيذ البالغة 800 مليون جنيه تتبع انخفاضا بمقدار 300 مليون جنيه في المبلغ السنوي الذي تُنفقه الإدارة على جمع الدخل منذ عام 2010. كما يستعد المسؤولون أيضاً لمزيد من التخفيضات في مراجعة الإنفاق في خريف هذا العام. ويصنف مكتب مسؤولية الميزانية ربع التدابير الضريبية الجديدة في الميزانية على أنها غير مؤكدة “جداً” أو “للغاية” – بما في ذلك الإيرادات المتوقّعة من المزيد من المُلاحقات القضائية. مختصو الضرائب الحريصون على رؤية حملة لمُلاحقات قضائية باهظة الثمن تابعوا هذا الشهر إدانة توم هايز، المتداول النجم السابق في بنك يو بي إس وسيتي جروب، الذي حُكم عليه بالسجن 14 عاماً بتهمة التلاعب في أسعار الليبور. مكتب مكافحة الاحتيال الخطير وصف الحُكم بأن “جزءا منه عقاب، وجزءا منه رادع”. يقول أندرو وات، مُفتش الضرائب المُخضرم الذي يدير الآن شركة خاصة للتحقيقات الضريبية: “إن الشيء نفسه سوف ينطبق في الضرائب”. “إلا أنها بركة أكبر بكثير مع الكثير من السمك”.