IMLebanon

السلطة تواجه خطر “لحْس المبرد”!

كتب وسام ابو حرفوش في صحيفة “الراي” الكويتية:

السلطة السياسية تعاني ارتباكاً على وقع موجة من التظاهرات… سلسلةٌ وإيرادات، ضربةُ موجعة وضرائب، أكاذيب ولحْس مبرد، انكماشٌ وشعبوية، أبطالٌ وحرامية، يدٌ تعطي ويد تأخذ، هدْرٌ وفوضى، غضبٌ وانتخابات، زعْبرةٌ وانفصام، إصلاحٌ ورقص على الأوجاع، مسرحيةٌ وتزوير، استعصاءٌ وعصيان، حكي سرايا وحكي قرايا، شارعٌ وصفقات… كل هذه الكلمات انفجرتْ بـ “رمزيّاتها” ودفْعةً واحدة في بيروت التي بدت أمس كأنها في استراحة ما بين عاصفتيْن، واحدة هبّت على البرلمان وفي محيطه (اول من امس) مع بلوغ الملاكمة بالأرقام حول إيرادات سلسلة الرتب والرواتب حدود مواجهةٍ سياسية – شعبية متفلتة، وثانية من المرجّح ان تهبّ غداً مع موجةٍ من الاحتجاجات في الشارع وسط تلويح بالعصيان.

يَحدث هذا “النقار والنقير” في بيروت التي صحت امس على أنباء أول مواجهة من نوعها في سماء سورية بين طائراتٍ اسرائيلية أغارتْ ليلاً على مواقع ومستودعات أسلحة لـ “حزب الله” وبين صاروخٍ من سورية ردّ عليها وطال غور الأردن وربما ما بعده، وهو الاحتكاك الذي أعقب توقعاتٍ باحتمال نشوب حربٍ بين “حزب الله” واسرائيل في حمأة المواجهة الأميركية – الإيرانية. ويَحدث هذا “الهرْج والمرْج” في بيروت التي تقترب من المهلة “الهالكة” في 21 الشهر الجاري من دون الاتفاق على قانون انتخاب جديد، الأمر الذي من شأنه ان يدفع البلاد نحو فوضى دستورية تجعل السلطة التشريعية في مهبّ الريح، في ضوء السيناريوات الغامضة التي ستحوط بمصير البرلمان الذي تنتهي ولايته في 20 يونيو المقبل، وهو الذي كان مدّد لنفسه لمرّتيْن.

ويَحدث هذا “الكرّ والفرّ” في بيروت الذاهبة الى القمة العربية أواخر الشهر الجاري في عمان، وهي التي لم تخرج بعد من “ورطة” تَصدُّع علاقاتها بالشرعيتين العربية والدولية بسبب مواقف سابقة لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون، اعتُبرت “شَرْعنةَ” لسلاح “حزب الله”، ما يجعل المواقف اللبنانية في القمة تحت المعاينة لما قد تؤشر إليه في سياق معاودة تطبيع العلاقات مع دول الخليج تحديداً.

وسط هذه التحديات، حدَث ما لم يكن في الحسبان. فبعد ثلاثة أعوام من “الأخذ والردّ” في الحكومات والبرلمان وبين القوى السياسية حول سلسلةِ رتبٍ ورواتب جديدة وسبل تمويلها، وبعد مناقشات ماراتونية طغت عليها محاولات تَجنُّب تَجرُّع كأسها، خلص الأمر الى تَوافُق سياسي على سلّة من الضرائب (22 ضريبة) كإيراداتٍ لتغطية أعباء السلسلة التي يفيد منها نحو 250 ألف عائلة.

وكان البرلمان باشر يوم الأربعاء الماضي مناقشة إيرادات السلسلة وما انطوتْ عليه من ضرائب لإقرارها، وفي مقدمها رفع الـ “T.V.A” من 10 الى 11 بالمئة، فاختار رئيس حزب “الكتائب” النائب سامي الجميّل، الذي كان أقصاه تَحالُف معراب بين “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية” من التسوية السياسية التي أنتجت الحكومة، ان يخرج عن التوافق ويلعب دور المعارض في مداخلاتٍ كثيفة، ما مدّد المناقشات الى اليوم التالي.

واتُهم رئيس “الكتائب” باستغلال المزاج الانتخابي في البلاد وباعتماد خطاب شعْبوي لإفساد المناقشات من دون تقديم بدائل لموجبات التمويل، وتحريض الشارع عبر ما قيل همساً عن ان أحد أعضاء كتلة “الكتائب” بعث من داخل الجلسة بواسطة الـ “واتساب” بلائحة عن ضرائب غير موجودة تطال الخبز والخليوي والمحروقات وما شابه، الأمر الذي تَسبّب بتأجيج مشاعر الناس وتأليبهم على البرلمان والحكومة. كما أُخذ على الجميّل محاولته إظهار ما يجري على انه مواجهة بين “أبطال وحرامية”.

واضطُر نائب رئيس البرلمان فريد مكاري، الذي لم يكتم غضبه من أداء الجميل الى رفْع الجلسة (التي لم يكتمل نصابها) بعدما اتَّهم رئيس “الكتائب” بالمزايدة والشعبوية وحمّله مسؤولية الفوضى في المناقشات، قبل أن يعبّر رئيس الحكومة سعد الحريري عن استيائه من “الأكاذيب” التي تُروّج عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتأليب الرأي العام، غامزاً من قناة نواب من “الكتائب”، ووصل به الأمر الى حد الإعلان عن فتح تحقيق وإمكان المطالبة برفع الحصانة عمّن يثبت تَورُّطه من النواب.

وتَرافقتْ هذه الضوضاء السياسية مع نوعيْن من الاحتجاجات التي بدتْ كـ “كرة الثلج” في محيط البرلمان… احتجاجاتُ الاساتذة والمعلمين والضباط السابقين وسواهم لعدم استجابة السلسلة لجميع مطالبهم، واحتجاجاتٌ لهيئاتٍ من المجتمع المدني على الضرائب الجديدة لتمويل تلك السلسلة وما تنطوي عليه من مضاعفاتٍ معيشية واجتماعية، وسط اتهاماتٍ للسلطة السياسية باستسهال فرْض ضرائب على الناس وتَجنُّب المساس بمصادر الهدر والفساد.

ورغم إعلان الحريري عن إصراره على إقرار السلسلة وإيراداتها تَجنُّباً للانزلاق الى “نموذج اليونان”، والمعلومات التي تحدّثتْ عن اتجاهٍ لمعاودة عقْد جلساتِ المناقشة منتصف الأسبوع المقبل، فإن الملابسات التي رافقتْ رفْع الجلسة بعد ظهر الخميس فتحت شهية البعض على القول إن ما جرى مجرّد مسرحية، إما لاحتواء غضبة الشارع وإما للتنصل من إقرار السلسلة التي ما زالت تجرجر منذ ثلاثة أعوام.

ورغم أن أوساطاً تستبعد وجود “قرار خفي” من السلطة السياسية بالقفز فوق السلسلة، فإن الصفعة الموجعة التي تلقّتها هذه السلطة أحدثتْ ارتداداتٍ سلبية قد تؤدي الى معاودة وضْع تلك السلسلة في “الثلاجة”. ومن بين الارتدادات مسارعة رئيس حزب “القوات اللبنانية” الدكتور سمير جعجع الى إعلان تعليق تأييد حزبه للسلسلة الى حين تأمين المعارضين وارداتها، مشيراً الى انه “عندما يصبح الأمر متعلقاً بالمزيدات فلا يمكن العمل”.

أما زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط فتراجع بدوره خطوة الى الوراء عبر “تغريدة” سارع الى حذفها، وقال فيها “ان وقف الهدر ومعالجة الفساد في شكل علمي يؤمن السلسلة ولا يتطلب هذا الكم من الرسوم والضرائب”، ثم اطلق “تغريدات” أخرى طالب فيها بتوحيد سلاسل المدنيين والعسكريين والاستغناء عن فائض الموظفين ووقف السفر الـ “نصف مجاني” للسياسيين والعسكريين والعلاوات، وفصل السياسة عن الإدارة وما شابه.

وسط هذه الهزّة التي أصابت موقف قوى أساسية كانت مؤيدة للسلسلة والعائدات لتمويلها، يتعاظم “الغليان” مع الاعتصام الذي نُفذ عصر أمس في وسط بيروت والدعوات للتظاهر غداً الأحد من هيئاتٍ في المجتمع المدني رأت في سلّة الضرائب المقترحة إجراءات جائرة، وطالبتْ بتأمين سبل مغايرة لتمويل السلسلة عبر ضبْط الهدر في المرفأ والمطار (الجمارك) ووقْف الصفقات، وتخصيص قطاع الكهرباء، وإقرار إصلاحات من شأنها تجنيب البلاد الكأس المُرة.

واللافت ان هيئات المجتمع المدني التي تستعدّ للنزول الى الشارع تملك مقاربات مختلفة لـ “أصل المأزق”، بعضها يحمّل السلطة السياسية المتورّطة في الفساد المسؤولية عما آلت اليه المالية العامة، وبعضها الآخر يطالب بـ “سيادة مالية” للدولة على مَرافقها، في إشارة الى الامتيازات التي يتمتع بها “حزب الله” في المرفأ والمطار وتُستخدم لهدر أكثر من 700 مليون دولار جراء التهرّب الجمركي.

وثمة مَن يعتقد بين هؤلاء ان ما آلت اليه مالية الدولة لا يعود الى مشكلات موْضعية او أسباب تقنية، بل هو وليد تراكماتٍ منذ اعتصام قوى “8 آذار” لعام ونصف العام في وسط بيروت وتعطيله، ومن ثم الإطاحة بحكومة سعد الحريري الاولى، وبعدها تعطيل الدولة لعامين ونصف عام نتيجة الفراغ الرئاسي بقوة “وهج” السلاح، وتالياً ان التقهقر العام يتجاوز مسائل من نوع الهدر والفساد والسرقات، وهي ظواهر ناجمة عن إضعاف السلطة المركزية.