IMLebanon

فزعة الملك عبدالله.. البداية من لبنان

لم تكن عرسال البلدة اللبنانية السنية الواقعة على الحدود السورية لتقع رهينة في أيدي الإرهابيين والتكفيريين من مسلحي «داعش» و«النصرة»، لو لم تكن الدولة اللبنانية في الأساس معطلة، نتيجة وقوعها رهينة الخلافات والانقسامات التي تعصف في الوسط السياسي، وهو ما أدى عمليا إلى شل السلطات وعرقلة عمل الإدارات ووقوع البلاد في فراغ متعاظم يهدد بجعل لبنان دولة فاشلة!

من المعروف أن الخلافات تحول دون انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتعطل السلطة التشريعية التي ينص الدستور على أنها تتحول هيئة ناخبة لا يحق لها التشريع مع بداية الاستحقاق الرئاسي، وليس غريبا أن تكون الانقسامات السياسية عاملا يشل عمل السلطة التنفيذية وفاعليتها، لأنها لا تستطيع مثلا أن تتخذ أي قرار إلا بموافقة كل أعضائها من الوزراء.

الانقسامات الداخلية الحادة ساهمت، منذ ثلاثة أعوام ونيف، في جعل الحدود اللبنانية مع سوريا مسرحا لخلافات مستعرة بين جماعة 14 آذار التي تدعم الشعب السوري في ثورته على النظام، وجماعة 8 آذار التي تدعم النظام، وقد يكون من المناسب أن نتذكر أن تاريخ 8 آذار يرتبط عمليا بالمظاهرة التي نظمها «حزب الله» في ذلك التاريخ ليدعم سوريا، ويقول: شكرا لبشار الأسد، عشية اضطراره إلى الانسحاب من لبنان، بعد انفجار ثورة الأرز في وجهه إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

مع ارتفاع الأخطار عند الحدود السورية – اللبنانية الفالتة، برز اسم عرسال التي لم تكن تعرف سوى أنها رمز أو مصدر للصخور التي تستعمل في البناء، بالتوازي مع انزلاق «حزب الله» بداية الأمر إلى ما قال يومها إنه قتال لحماية القرى الشيعية الحدودية، التي يُفترض أنها تحت حماية الجيش اللبناني.

ومع ذهاب مقاتلي «حزب الله» إلى الجبهات داخل سوريا تحت شعار حماية المقامات الدينية، ثم بعد الإعلان عن دخولهم كل المعارك دعما لنظام بشار الأسد، تحولت عرسال الواقعة على خط النار هدفا على خلفية دعم أهلها من السنة للمعارضة السورية، ويومها، لم يكن هناك «داعش» ولا «النصرة» اللتان اجتاحتا وهاجمتا حواجز الجيش وقوى الأمن الداخلي فيها، وهو ما هدد بنقل النار السورية التي تعس على الحدود منذ ثلاثة أعوام إلى داخل لبنان.

قبل عام ونصف العام تقريبا، خاض الجيش السوري و«حزب الله» معركة يبرود والقلمون بهدف إقفال الحدود اللبنانية في وجه قوات المعارضة، وقد دفعت المعارك أعدادا منهم إلى الهروب إلى جرود عرسال التي يبلغ عدد سكانها 40 ألف نسمة، بينما بات عدد اللاجئين فيها أكثر من مائة ألف، وبينهم بالطبع عائلات لمقاتلين في المعارضة، وهكذا تحولت عرسال ومرتفعاتها التي تبلغ مساحتها 1400 كيلومتر مربع (أي عشر مساحة لبنان) أرض كر وفر، ودأب الطيران والمدفعية السورية على قصف تلك المناطق.

رغم محاولات الجيش اللبناني ضبط الحدود، فإن انخراط «حزب الله» في القتال داخل سوريا حال ويحول دون ضبط الحدود، ومع ارتفاع الخلافات والصدامات العابرة على الحدود، وخصوصا بين عرسال السنية التي تحيطها قرى شيعية عدة، ارتفعت المطالبات بتوسيع فعالية قرار مجلس الأمن رقم 1701، الذي أنهى العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006، بحيث يشمل ضبط الحدود مع سوريا، لكن قوى 8 آذار رفضت الأمر رفضا قاطعا.

نعم، لم تكن عرسال لتقع رهينة القتلة والإرهابيين من «النصرة» و«داعش» لو لم تكن الدولة اللبنانية رهينة الانقسامات الداخلية المتصاعدة على لفح الكراهيات المذهبية، التي تعصف في المنطقة كلها، ولم يكن قيام الجيش بتوقيف الإرهابي السوري عماد أحمد جمعة، يوم السبت الماضي، منطلقا لهذا الغزو الوحشي التكفيري، لو كان اللبنانيون موحدين ويقفون قبضة واحدة عند سيادة وطنهم، وليس كثيرا القول إن لبنان مخطوف بخلافاته قبل عرسال، وإن المستوى السياسي والحزبي في البلاد هو المسؤول عما جرى ويجري.

لكن القصة في المدى البعيد ليست قصة بلدة اسمها عرسال، بل قصة وطن اسمه لبنان، ولأن «لبنان مقلة العين»، كما يقول عنه خادم الحرمين الشريفين، فقد اختاره ليكون محطة أولى لترجمة خطابه التاريخي، الذي وجهه يوم الجمعة من الأسبوع الماضي إلى الأمتين العربية والإسلامية، داعيا إلى إدانة شاملة كاملة للإرهابيين، الذين يقتلون الأنفس ويمثلون بها وينشرون صور فظاعاتهم ويشوهون صورة الإسلام بنقائه وصفائه وإنسانيته، ويلصقون به كل الصفات السيئة بأفعالهم وطغيانهم، إلى درجة أنه أصبح كل من لا يعرف الإسلام على حقيقته يظن أنه سبب ما يصدر عن هؤلاء الخونة.

وهكذا أعلن الرئيس سعد الحريري من القصر الملكي عن مبادرة فورية استثنائية من خادم الحرمين الشريفين بتقديم مليار دولار إلى الجيش اللبناني وقوى الأمن، لتعزيز قدرات لبنان على المحافظة على أمنه، وجاء ذلك بعدما كان الملك عبد الله اتصل بالرئيس ميشال سليمان، وأكد دعم المملكة ووقوفها إلى جانب لبنان والمؤسسة العسكرية في مواجهة الإرهاب والإرهابيين الخونة، الذين يلوثون القيم الإنسانية ويخطفون الإسلام، ويشوهون صورته النقية.

وكان الملك عبد الله قد قدم هبة لدعم الجيش اللبناني في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، قيمتها ثلاثة مليارات دولار تُصرف بالتعاون مع فرنسا، وقد انطوت مكرمته الجديدة على مؤشرات ضمنية مهمة، إذ لا يمكن فصل الجيش عن الوطن، فالجيش القوي يعني لبنان القوي، كما يعني وحدانية قوة الدولة على أرضها، ووحدانية قوة الدولة وسيطرتها تعنيان أنه لا يجوز ولا يمكن استرهان لبنان لسياسات خارجية بالاستقواء.

عندما يأتي الإعلان عن المكرمة من سعد الحريري الذي كلفه خادم الحرمين الشريفين تسليمها، فهذا مؤشر واضح على أنه يرى في «الحريرية» الوجه المعبر عن الإسلام السني اللبناني، ووسطيته، وتعايشه العميق مع المكونات اللبنانية، وليس مبالغة الافتراض أن اتصال خادم الحرمين الشريفين بالرئيس ميشال سليمان يمثل حضا ضمنيا للبنانيين على ضرورة الإسراع، في انتخاب رئيس جديد للبلاد.

ولأن لبنان وطن التعايش بين الأديان، فقد نظر إليه الملك عبد الله دائما على أنه «واسطة العقد» العربي، ولهذا اختاره، عبر مبادرته الاستثنائية، منطلقا عمليا يقدم ترجمة أولى لصرخته في وجه المجتمع الدولي الصامت والمتخاذل والمتعامي عن الإرهاب، بأشكاله وفظاعاته، سواء على ما جرى في غزة، أو ما يجري على أيدي الإرهابيين القتلة، الذين يمعنون في سفك الدماء وارتكاب المجازر، وآخرها في عرسال.

والصمت الدولي عن إرهاب إسرائيل في غزة، وعن مذابح الإرهابيين مشوهي صورة الإسلام ليس له من تبرير، وخصوصا أنه سيفرز جيلا من المتوحشين ممتهني العنف رافضي الآخر ومدمري الحضارات.