IMLebanon

عن مستويات الحراك في لبنان

بعد حوالى ثلاثة أسابيع من التحرّكات والتظاهرات الاحتجاجية، ما زال الحراك يترنّح بين حدّي الوجود، كمجرّد حراك اعتراضي في الشارع، والانطفاء كسائر المحاولات التي سبقته، وإن كان شكل كسوف هذا التحرّك قد يختلف عمّا سبقه من تجارب. فبعد عدد من التحرّكات في الشارع وردود الحكومة عليها، بدأت تظهر معالم الحراك ونقاط ضعفه وحدوده التي يجب تداركها، كما ظهرت أيضاً معالم «النظام» وحدود قمعه أو إصلاحه. ويمكن تحديد ثلاثة مستويات للحراك، تتزامن وتتكامل وتتناقض، ولكل واحد منها وتيرته الخاصة، وإن كانت كلّها تتوحّد أو تتلاقى في الشارع.

بداية، هناك المستوى «الرسمي» المطلبي، الذي بدأ مع أزمة النفايات ليمتدّ إلى مسألة علاقة البلديات بالمالية العامة، قبل أن يطرح إشكالية المناطق وعلاقتها بالمركز. قد يتطور هذا المستوى ليشمل ملفات أخرى كالكهرباء أو الأملاك البحرية أو غيرها من الأمور المطلبية، كما يمكن أن يعيد فتح ملفات قديمة كموضوع سلسلة الرتب والرواتب. بيد أنّ مسألة النفايات أظهرت «سقف» مطالب كهذه، أو على الأقلّ أظهرت تعقيدات طرح الملف المطلبي.

فأولاً، لكل ملف مساره الخاص، الذي قد يأخذ شكل المواجهة أو التفاوض مع الحكومة. فالمطلوب إنجازات أو على الأقل تقدّم في الملفات، وهذا ما قد يتطلّب بعضاً من «الالتباس» في التحرّك. ثانياً، بات النظام اللبناني في فساده المعمّم وتصلّب مؤسساته، غير قادر على تلبية أي مطلب من دون إعادة البحث في تركيبة البلاد المناطقية والاجتماعية والسياسية، ما يتطلّب جهداً ومساومات كبيرة لتحقيق أي تقدّم. وثالثاً، ما زالت المطالب موجّهة للدولة، أي لا تقوم على إعادة التوزيع بين فئات المجتمع، وهذا إذا ما طُرح فإنه قد ينتج اعتراضاً مجتمعياً، كالذي رأيناه في قضية سلسلة الرتب والرواتب، والتعاطي معه مختلف عما رأيناه في الأيام الأخيرة. فالسؤال هنا عن كيفية تفعيل المستوى المطلبي، ما بين ضرورة التنسيق بين المسارات المختلفة وخصوصية كل ملف، لبناء مروحة من الاحتجاجات قد تنجح في إحراز بعض الاختراقات.

المستوى الثاني للتحرّك، الذي ظهر على هامش الحراك العام، هو المستوى الثقافي أو «الجيلي» الذي تجلّى بعدد من «التوترات» الجانبية. ويظهر هذا المستوى من خلال عمر المتظاهرين، والخلاف الكامن على «الأغاني الثورية»، وشكل الحراك، والحساسية حيال رموز سياسية ربطت الخطاب الاحتجاجي بمشاريع سلطة، ورفض الخطاب عموماً أو ترداد مقولات «ثورية» بانتظار خطاب مختلف، وغير ذلك من إشارات.

الصراع على هذا المستوى يُخاض على أرضية محدّدة، وهي معركة الخطاب الاحتجاجي في لبنان وأدوات نقد النظام، وهو ما لم يتجدد منذ السبعينات، لأسباب عدة، منها الحرب الأهلية واستغلال هذا الخطاب من سلطات الأمر الواقع.

تجديد الخطاب الاحتجاجي يأتي في لحظة خاصة، تمرّ فيها المنطقة بتقلبات الثورات العربية، مع مدّها وجزرها اللذين غيّرا وجه المنطقة، كما يأتي في لحظة تمرّ فيها البلاد بأصعب لحظاتها، مع تراكم الأزمات الاقتصادية والسياسية والميثاقية. أو بكلام آخر، تأتي مرحلة التجديد في لحظة مشابهة بخطورتها للحظة الحرب الأهلية التي قضت على بوادر الحركة الاحتجاجية في السبعينات. فالسؤال الذي يواجه من يهتم ببلورة هذا الخطاب هو: كيف يمكن ربط المسائل الاجتماعية والتحررية بالمسألة السياسية والميثاقية، لتجنّب الوقوع في المسار التدميري العام؟ أو بكلام آخر، كيف يمكن التفكير بخطاب احتجاجي يدرك شروط إمكانيته، أي وجود حدّ أدنى من السلم الأهلي ومن المؤسسات التي يمكن معارضتها.

غير أنّ العقدة الأساسية اليوم، تقع على المستوى الثالث، أي المستوى السياسي الآني. فإذا وضعنا جانباً شعار «إسقاط النظام» الذي سُحِب أصلاً من التداول، أو محاولة «١٤ آذار» التلاقي مع الحراك من خلال مطالبته بنزع سلاح حزب الله وتبنّي أولوية الانتخابات الرئاسية، أي بأن يتحوّل الحراك إلى الوجه الجديد لـ «١٤ آذار»، يبقى هناك طرح واحد لا يزال يتمّ تداوله. فهناك مقولة أو مخرج سياسي أو عرض من قوى الأمر الواقع يفترض التلاقي حول الانتخابات النيابية أولاً. وهناك جاذبية لطروحات كهذه بين عدد من مكونات الحراك المدني، وبينهم الوزير السابق شربل نحاس الذي اعتبر أن تعميم الفساد «يندرج في إطار فشة خلق» يجب استيعابها. فتتويج الحراك سياسياً يكون في قانون انتخابات يعطي الغلبة لقوى «٨ آذار». ويمكن تسمية هذا الخيار بأنّه خيار «الإصلاح والتغيير تحت منظومة السلاح والقتل»، مطالباً المتظاهرين، ليس فقط بتناسي دور حزب الله التخريبي في لبنان والتدميري في سورية، بل أيضاً فساد هذه القوى، لينتهي هذا المسار بتحويل الشباب إلى نوع من «سرايا المقاومة المدنية».

فإذا كان هذا الخيار مرفوضاً، بقي خيار آخر يعتبر أن هدف هذا التحرّك هو «تحسين شروط العيش في ظل الأزمة السياسية والميثاقية والسيادية». ومفاد هذا الخيار دفع أو إرغام السياسيين على تحييد بعض الملفات الحيوية من تبعات الصراع الحالي، ونقل الخلافات حول الرئاسة أو السلاح أو قانون الانتخابات إلى طاولة حوار، يُفضل عقدها نهار الأحد، وليس في منتصف الأسبوع. هذا الخيار ليس فقط براغماتياً، ومتعلّقاً باستحالة أن يخوض الحراك اليوم أي معركة سياسية، بل ينطلق من ضرورة «تسييس الحياة اليومية» الذي يحتاج الآن إلى بعض من «الحياد» السياسي.

ففي ظل التصارع السياسي بين قوى ٨ و١٤ آذار الذي شلّ البلاد، قد يكون من المفيد النزول إلى مستوى ما دون سياسي لبناء الحاضنة المؤسستية للحراك المطلبي والصراعات الجانبية. ولربما شكلت الانتخابات البلدية في ٢٠١٦ نقطة البداية لإعادة ابتكار سياسة مختلفة؟