IMLebanon

لكن كيف «تندم» تركيا على فعلتها؟

لا يعادل ما وصف بـ «الجنون الروسي» عقب إسقاط طائرة «سوخوي 24» من قبل المقاتلات التركية، سوى قول رئيس النظام السوري بشار الأسد لمستشار المرشد الإيراني علي أكبر ولايتي قبل أيام أن «الإنجازات» التي حققتها قواته على الأرض خلال الفترة الماضية دفعت «الدول المعادية» إلى تزويد المعارضة بأسلحة نوعية لم تكن تملكها من قبل. فكلاهما، أي «الجنون الروسي» وشكوى الأسد من «الأعداء»، دليل أكثر من كاف على أن ما تم في سورية منذ بدء الغارات الروسية قبل شهرين لم يحدث أي تغيير في ميزان القوى، ولا في استعادة أي من الأراضي التي فقدها النظام من جهة، وعلى أن ما يفكر فيه الطرفان للفترة المقبلة هو المزيد من التصعيد في الجو وعلى الأرض من جهة ثانية.

للتذكير فقط: اتخذ قرار التدخل الجوي الروسي (ومعه البري الإيراني) بعد كلام مماثل للأسد في آب (أغسطس) الماضي، تحدث فيه عن نقص في عديد قواته المقاتلة بسبب التهرب من الجندية، وعن انسحابها من بعض المناطق وإعادة تموضعها في ما سماه يومها «سورية المفيدة».

ولم يعد سراً أنه بعد ذلك قام قائد «فيلق القدس» الجنرال قاسم سليماني بزيارتين لموسكو تم فيهما التنسيق بين البلدين حول طريقة إنقاذ الأسد: قصف روسي من الجو، وتقدم بري إيراني على الأرض بالتعاون مع ميليشيات «حزب الله» اللبناني و «عصائب أهل الحق» العراقية والبقية الباقية من قوات النظام.

ولعله من هنا بالذات استهدفت الغارات الروسية، كما الهجمات البرية الإيرانية/ الميليشياوية/ السورية، قوات «الجيش السوري الحر» أكثر من أية قوات معارضة أخرى للنظام، بما فيها تنظيم «داعش» الذي يقال أنه الهدف الأول للتدخل الروسي. لكن المحصلة مع ذلك، وبعد نيف وشهرين من القصف من الجو ومحاولات التقدم في البر، لم تكن إلا ما بات معلوماً لدى الجميع أن في الداخل السوري أو في الخارج الدولي والإقليمي… وهو بقاء النظام السوري المهتزّ على حاله.

وحاله هذه لا تعني أن النظام سيسقط غداً، لكنها لا تعني في الوقت ذاته أن الحملة الروسية/ الإيرانية المشتركة نجحت في ضمان عدم سقوطه بعد غد على سبيل المثال.

في كلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، غداة العملية، أنه وضع لها سقفاً زمنياً ينتهي مطلع العام المقبل، لكنه يبدو مؤكداً الآن، أقله من لهجته التصعيدية وإجراءاته الانتقامية تجاه تركيا (وقبلها تجاه مصر بعد تفجير الطائرة المدنية الروسية في سيناء) أن هذا السقف اختلف في صورة جذرية. وليس مبالغاً به القول إن بوتين يتجه إلى المزيد من التورط في المستنقع السوري.

ذلك أن بوتين لم يخف للحظة واحدة، لا بالقول ولا بالتدابـير التي اتخذها ضد مصر أولاً والآن ضد تركيا، أن كبرياءه الشخصي والقومي هو الذي أصيب في الحادثين. ولأن حركته باتجاه سورية، بعد عمليتيه في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، تمت تحت شعارات أقلها استعادة دور الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى في العالم، وفي المنطقة تحديداً، يصبح مفهوماً إحساسه بالإصابة وبعمق الجرح الذي سببته.

وإذا كان من غير المفهوم معنى قوله المتكرر أن «تركيا ستندم على فعلتها»، وأن رده عليها لن يقف عند الإجراءات الاقتصادية، فمن المستبعد بدوره توقع أن يخاطر باللعب على شفير حرب فعلية مع تركيا، وتالياً مع الحلف الأطلسي، بنتيجة قراره التدخل في سورية.

ولا يتعلق الأمر بموازين القوى في العالم فقط، وبكون روسيا لم تخرج بعد من فترة النقاهة عقب سقوط الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، إنما أيضاً وقبل ذلك لأن بوتين يعرف أكثر من غيره أن لا اعتراض غربياً، ولا أميركياً تحديداً، على أن يكون لموسكو نفوذ ودور ما في سورية حيث قاعدتها البحرية القديمة في طرطوس، ولو أنها على الحدود المباشرة مع الحلف الأطلسي في تركيا.

إذاً، ماذا يمكن أن يكون فحوى التهديدات الروسية المتكررة لتركيا؟

غالب الظن، أن بوتين سيزيد تورطه العسكري (الجوي والصاروخي) في سورية، لا لشيء إلا للحيلولة في شكل كامل ونهائي دون تحقيق حلم تركيا بإقامة منطقة آمنة على حدودها مع سورية، بخاصة أنها أعطت وعداً للاتحاد الأوروبي بوقف نزوح السوريين إلى دوله، ونالت في المقابل موافقة أوروبية على إنشاء هذه المنطقة مضافاً إليه ثلاثة بلايين يورو لمساعدة هؤلاء النازحين. وفي موازاة ذلك، إذا لم يكن من شأن زيادة التورط هذه أن تعيد توازن القوى بين الأسد والمعارضة، كما بدا جلياً حتى الآن، فإنها تمنع سقوطه السريع من ناحية وتنفع في المفاوضات من أجل التسوية السياسية (في فيينا أو نيويورك كما قيل أخيراً) من ناحية ثانية.

لكن الأهم من ذلك، كما يعتقد البعض، أن تمد موسكو يدها بالعون العسكري (سلاحاً وتدريباً وذخيرة) إلى الأكراد المتحصنين في منطقتهم في سورية، والذين تحاربهم تركيا بدعوى أنهم ينتمون إلى «حزب العمال الكردستاني» التركي وأنهم يسعون لإقامة دولة لهم على حدودها.

بل أكثر، كما يقال، بمد اليد حتى إلى داخل تركيا نفسها، حيث من جهةٍ الطائفة العلوية وما لها من علاقــات سرية قديمة مع النظام العلوي في سورية، وحيــث من جهة أخـرى عـدد من الأحزاب اليسارية التي خاضت ولا تزال صراعاً سياسياً مريراً مع «حزب العدالة والتنمية»، كما بعض الأحزاب القومية والعلمانية فضلاً عن الأتاتوركيين الذين يخوضون معه حرب وجود.

لكن السؤال هنا لا يعود روسياً، إنما تركي أولاً وأخيراً وهو: ماذا يكون رد أنقرة في هذه الحال؟ وهل يبقى الرد في حدوده التركية، أم يصبح أطلسياً في ضوء الكلام الذي تردد أخيراً أكثر من مرة حول الأمن في تركيا والأمن في دول الحلف كلها؟