IMLebanon

من الربيع العربي إلى الربيع النووي

من مؤتمر فيينا في 1815، الذي أعاد رسم خريطة النفوذ بين الدول الأوروبية بعد حروب نابوليون، الى اتفاق فيينا في 2015 بين ايران والدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن زائد المانيا، قرنان من التحولات الكبرى في مسار العلاقات الدولية للمنطقة العربية، أبرزها محطات ثلاث: الاولى، انهيار السلطنة العثمانية وقيام الدولة الوطنية بعد الحرب العالمية الاولى؛ الثانية، مرحلة الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية ونشوء دولة اسرائيل بعد حرب 1948؛ والثالثة الربيع العربي الذي انتج الفوضى، علّه يزهر املا جديدا قبل خريف عمر صانعيه.

ربيع من نوع آخر أطلقه اتفاق فيينا، النووي في الاسم، السياسي والاقتصادي في المضمون، وسيكون له تداعيات اقليمية، وإن كان الكلام السياسي عنه فيه الكثير من المبالغة، سلباً أو ايجاباً. يأتي الاتفاق في زمن الدولة الوطنية، فلا مساحات «مشاع» غير مشغولة، لا هوية لها ولا حدود. وعلى رغم تهاوي بعض الانظمة والدول، الا ان هذا الواقع سابق لاتفاق فيينا.

اما الشرخ المذهبي المتفاقم، فجذوره التاريخية والدينية تعود الى ما قبل نشوء الدول التي وقّعت اتفاق فيينا والى ما قبل ايران الصفوية. مسائل اخرى اخذت مداها قبل الاتفاق النووي: تصدّع النظام الاقليمي العربي، الاحتلال والتوسع الاسرائيلي، الانقسامات العربية، التطرف الديني والعنف المستشري. كل ذلك حصل قبل مساعي تطبيع علاقات ايران مع العالم وبمعزل عن سياسات الدول الكبرى، خصوصا الولايات المتحدة ورئيسها الذي ربما اخذ خيار التفاوض مع ايران بعد ان يئس من التفاوض غير المجدي مع اسرائيل ومن الكلام المكرر للحلفاء العرب في مسائل تعني مجتمعاتهم قبل ان تُشغل بال الآخرين.

بعد فك العزلة الدولية عن ايران ستكون طهران بلا شك في موقع نفوذ متجدد، سياسيا واقتصاديا ومعنويا. واذا التزمت ايران تنفيذ الاتفاق واثبتت ان استخدامها النووي هو لأغراض سلمية فستكون اول الرابحين. في المقابل ستكون اسرائيل اول الخاسرين، اقله ظرفيا. اما المتضررون فكثر، خصوصا في منطقة الخليج العربي، لا سيما السعودية، بينما دول اخرى في مجلس التعاون الخليجي لم تكن في قطيعة كاملة مع طهران.

والسؤال، الى اي مدى ستتمدد ايران في المنطقة بعدما وصل نفوذها قبل الاتفاق النووي الى لبنان وفلسطين والعراق وسوريا واليمن والبحرين؟ وماذا كانت ستفعل السعودية في ما لو لم يتم الاتفاق؟ ساحة النزاع الاكثر سخونة وصعوبة هي سوريا حيث خطوط التماس متعددة ومتحركة على وقع المواجهات العسكرية المحتدمة. في الدول الاخرى، حيث لايران ولغيرها من دول المنطقة نفوذ، الاوضاع مختلفة. في البحرين ثمة خطوط حمراء ليس من السهل تجاوزها. في اليمن التسوية غير ممكنة بلا السعودية وايران، وفي فلسطين نزاع بين اهل البيت انفسهم لا يقل حدة عن النزاع مع الاحتلال. وفي لبنان موازين قوى دقيقة لا يمكن التعامل معها على قاعدة الالغاء او الاقصاء.

في اكثر السيناريوهات تفاؤلا، بناء علاقات ثقة متبادلة بين ايران وشركائها الجدد يخضع لاعتبارات مرتبطة بحسن تنفيذ الاتفاق وبالتأييد له، خصوصا من واشنطن وطهران. بعده تأتي ترجمة الثقة الى افعال لمصلحة الجهات المعنية. والاختبار الاول في هذا السياق التصدي الجدي للتنظيمات السلفية المتطرفة في العراق وسوريا، هذا ليس بالامر المستحيل اذا توافرت الارادة لذلك، ولجميع الاطراف مبدئيا مصلحة في ذلك، ومنهم الآن تركيا بعد ان استهدفها داعش على رغم الدعم الذي قدمته للتنظيمات الجهادية المسلحة منذ 2011. اما الازمات الاخرى فهي اكثر تعقيدا والخلافات حول مقاربتها ونتائجها لن يلغيها الاتفاق النووي. ازمة اليمن بعد «عاصفة الحزم» متعددة الجوانب والتسوية تخضع لاعتبارات لا يمكن تأمينها الا بمشاركة الولايات المتحدة، وهذا بدوره مرتبط بمسار علاقات واشنطن مع طهران والرياض. وفي سوريا النزاعات متداخلة والمصالح متناقضة، كما ان روسيا شريك اساسي في اي تسوية ممكنة.

في اسرائيل بازار التهويل والتهديد والوعيد والابتزاز لن يتوقف، خصوصا مع انطلاق الحملات الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة. اسرائيل تعلم ان ما كُتب قد كتب، لذلك ستحاول تحسين شروطها للحصول على افضل ما يمكن من «تعويض» بالسلاح الاميركي المتطور والمال، وهي الدولة الاقليمية الوحيدة التي تملك سلاحا نوويا منذ اكثر من نصف قرن. اسرائيل تراهن على رحيل اوباما وانتخاب رئيس يتعاطف مع طروحاتها ومستعد ان يخاصم طهران. ايران قادرة ان تعطل مناورات اسرائيل وابتزازها، لا سيما ان اسرائيل واقعيا ليست قيمة مضافة للحليف الاميركي بالمقارنة مع ايران «المحيّدة» وحلفائها المقتدرين، ابرزهم تركيا والسعودية.