IMLebanon

أضواء على أحداث أودت بالوحدة العربية الأولى في التاريخ الحديث

أضواء على أحداث أودت بالوحدة العربية الأولى في التاريخ الحديث

ثورة خرجت من رحم انقلاب الضباط الأحرار التسعة

ونكسة أحبطت مفاهيم يمينية وأفكاراً ماركسية ويسارية

كانت ثورة غيّرت معالم دولة، وبعضهم يقول إن ما حدث في مصر في بداية الخمسينات، انقلاب عسكري، قام به تسعة من الضباط الأحرار، صنعوا تاريخ العرب، على مدى سبعة عقود.

منذ البداية كان جمال عبد الناصر، الضابط برتبة بكباشي هو الثائر على نظام الملك فاروق، وهو من اختار اللواء محمد نجيب للقيادة الموقتة، ولكن رحل بعد تأميم قناة السويس، وكسر حدة السلاح والنظام الفاسد، ورفع شعار تحطيم العرش، ومهّد الطريق لتنازل الملك فاروق عن العرش، واحكام قبضته على الحكم.

ومن مفارقات القدر ان ابرز اصدقاء الرائد العربي، وهو عبد الحكيم عامر كان السبب الرئيسي في ارتكاب اخطاء اطاحت بأول وحدة عربية، خصوصاً وان وحدة مصر وسوريا، تبعتها اخطاء اكبر عندما وضع ثقته فيه، وطارت من ثم آمال القائد جمال عبد الناصر واحلامه، في نكسة العام ١٩٦٧. وهنا تكمن الثغرة العظمى بتعيين جمال عبد الناصر انور السادات نائباً له.

وتقول رواية الكاتب الفرنسي روبير سوليه المنشورة في العام ١٩٧٨: ان اجمال عبد الناصر وجه رسالة الى حسن ابراهيم، يورد فيها ان الثورة ستحدث في ٢٣ يوليو، بغية ابلاغ بعض ضباط الثورة بالخبر المرتقب.

بعد الانقلاب، وبناء على طلب جمال عبد الناصر، يوضح الكاتب ان الضابط محسن عبد الخالق، الذي اصبح في ما بعد سفيراً لمصر في اليابان ما يلي: نحو الساعة الثامنة مساء، كانت العملية قد نجحت، ولم يبق سوى احضار اللواء محمد نجيب، وتعيينه قائداً للجيش كما كان متفقاً عليه مسبقاً. وقد اختار عبد الناصر انور السادات لتلاوة خبر الانقلاب من الاذاعة، لأن مصر اجتازت فترة عصيبة في تاريخها من الرشوة والفساد وعدم الاستقرار.

قرر الضباط الاحرار في المرحلة الأولى، ان يفرضوا على الملك فاروق، سياسياً مستقلاً هو علي ماهر باشا لرئاسة الحكومة الأولى بعد الانقلاب، فوافق ماهر، بعدما نال موافقة الملك هاتفياً، وكان موجوداًَ في الاسكندرية مع قسم كبير من افراد الحاشية والحكومة.

وبعد يومين وجه اللواء محمد نجيب انذاراً الى الملك.

وما قام به جمال عبد الناصر، كان ثورة على الفساد، وانقلاباً على الاخطاء المتوارثة. الا ان ما فعله السادات في العام ١٩٧٠، كان اسطورة لا تصدّق عندما جعل الثورة مصالحة بين مصر واسرائيل، والسفر الى القدس المحتلة، والانتقال غير المتوقع الى منتجع كامب دايفيد، واللقاء بين الرئيس الأميركي جيمي كارتر والرئيس المصري انور السادات، ورئيس وزراء اسرائيل مناحيم بيغن.

الا ان وزير الخارجية الاميركي هنري كيسنجر، ردد اكثر من مرة، انه لو كان متأكداً ان السادات سيزور اسرائيل، لكان حصل له على نتائج افضل بكثير مما حصل عليها.

وحكاية الثورة المصرية حكاية طويلة بين المصالحة المصرية – الاسرائيلية والمواجهة السلبية، كانت مجرد اوهام، دفع ثمنها السادات غالياً عندما اغتيل الرئيس المؤمن على ايدي ضباط مؤمنين بالاسلام في احتفال يوم المنصة.

الا ان رئيس الوزراء المصري الجديد علي ماهر باشا، وجه الى الملك فاروق رسالة يطلب منه فيها التنازل عن العرش، لمصلحة ابنه الذي لم يكن قد تجاوز الشهر السادس من العمر، فوافق الملك على طلبه، وغادر الاسكندرية على متن اليخت الملكي المحروسة مع افراد عائلته.

وطرح جمال عبد الناصر على رفاقه الضباط الاحرار، وهم من ذوي المشارب السياسية المختلفة، التصويت بعد التفكير، على الاختيار السياسي للثورة هل مع ان تبقى مصر في قبضة الاحزاب التقليدية ام يجب ان تصبح ديمقراطية أم ديكتاتورية.

في ايلول ١٩٥٣، تشكلت محكمة ثورية للحكم على عدد من السياسيين المتهمين بمواصلة العلاقات مع سفارة بريطانيا. وتألفت هيئة المحكمة من ثلاثة اعضاء من مجلس الثورة، وأصدرت احكاماً بحق رئيس الحكومة السابق ابراهيم عبد الهادي، وفؤاد سراج الدين، وهو من حزب الوفد، وابراهيم فرج الامين العام المساعد لحزب الوفد، واللواء محمد نجيب الذي اصبح رئيساً للجمهورية، لكنه كان يخشى عبد الناصر الذي دار بينهما كباش طويل، الى ان ازيح عن السلطة في تشرين الثاني ١٩٥٤، وفرضت الاقامة الجبرية عليه.

الا ان علاقات وطيدة قامت بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، وخلافاً لأعضاء آخرين في مجلس قيادة الثورة، تولى عبد الناصر رئاسة الحكومة.

عاشت مصر في تلك المرحلة، حقبة من الاشاعات والمؤامرات وبرز خطر تنظيم الاخوان المسلمين الذي اشتبه في نيته الاستيلاء على السلطة فتحول الى العمل السري. وفي تشرين الاول من العام ١٩٥٤، اتهم التنظيم بالاعداد لمحاولة اغتيال عبد الناصر، لكنها باءت بالفشل. وفي الشهر التالي أعدم ستة من اعضائه شنقاً، بعدما حوكموا امام محكمة الشعب.

في ٢٦ تموز ١٩٥٦ تسارعت التطورات، وأعلن عبد الناصر قراره الشهير، بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس، وبداية تاريخ جديد للقائد العربي اتسم بالثورة والنضال ضد التركيبة السياسية الجامدة، في عصر ثورة ٢٣ يوليو.

ويقول روبير سويت ان تلك الخطوة جاءت رداً من عبد الناصر على الولايات المتحدة التي ارادت معاقبته على شراء اسلحة من دول الكتلة الشرقية، فمنعت البنك الدولي من تمويل مشروع بناء السد العالي في اسوان، لكنه قال للجماهير التي اخذتها النشوة: عائدات القناة هي التي ستموّل مشروع السد. كانت تلك لعبة مراهنة، فهل سيقبل البريطانيون والفرنسيون الذين يملكون غالبية أسهم الشركة بهذا الأمر الواقع؟ بعد ثلاثة أشهر، تعرضت مصر ل عدوان ثلاثي جبان، حين قامت وحدات عسكرية بريطانية وفرنسية، متحالفة سراً مع القوات الاسرائيلية التي بادرت الى الهجوم، بمحاولة استعادة القناة بالقوة. كان تحقيق ذلك ليكون سهلاً لولا ان البيت الأبيض أوقفها، بضغط من الكرملين. والواقع ان الاتحاد السوفياتي بلغ به الأمر بأن هدد باشعال حرب نووية، وهو ما سمح له بتحويل الانظار عن تدخله العسكري في بودابست…

وهكذا تحول عبد الناصر، بين ليلة وضحاها، الى بطل قومي للعالم العربي.

في العام ١٩٦٠ علم عبدالناصر انه مصاب بالسكري. فساهمت مخاوفه الصحية في تبديد هدوئه.

ويوضح روبير سوليه ان ذلك كله ذهب أدراج الرياح في العام التالي، عندما انتفض السوريون ضد النظام البوليسي، وتأميم اقتصادهم، فوضعوا حدّاً للوحدة. حوصر المشير عامر في منزله بدمشق، ثم وضع بالقوة في طائرة وطرد من سوريا.

إلاّ ان الكاتب يرى ان جمال عبدالناصر واجه هبّة غير متوقعة عندما انغمست قواته في الحرب اليمنية بعد ازاحة الإمام البدر عن الإمامة.

واصل نجم البكباشي في التألق وكان رفاقه يعتبرونه قائداً استثنائيا لا يناضل من أجل مصر فقط بل من أجل العرب.

وكان عبدالناصر يحاسب دائما نفسه الحساب الأقوى، في حين كان يتلمس لغيره كل أبواب الغفران والعفو، ولا شك في ان تكريم السيد المطلق لمصر كان أمراً لائقاً آنذاك، ولم يشذّ أحد عن تلك القاعدة.

الانجاز الأهم في تلك السنوات كان بناء السدّ العالي في أسوان، وهو أحد أضخم السدود في العالم. فقد أتاح التحكّم بفيضانات نهر النيل، والاحتفاظ بكمية من المياه من أجل الزراعة وتوليد الكهرباء. وقد كان من الضروري تلبية حاجات الصناعة والنمو السكاني الهائل، وذلك على حساب صحراء النوبة التي تم اغراقها بعد نقل سكانها الى مسافة أبعد شمالا.

اشتعلت وسائل اعلام العالم كله حماسة لتغطية عملية خاطفة للأبصار، جرت برعاية منظمة اليونيسكو، لنقل بعض الآثار التاريخية الرائعة كمعبد أبو سنبل الذي فكّك الى قطع، يعاد بناؤه على احدى الهضاب.

وحضر الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف لتدشين الجزء الأول من الأعمال في أيار من العام ١٩٦٤، لكنه ما لبث ان أزيح لاحقاً عن السلطة في موسكو.

سافر عبدالناصر الى الاتحاد السوفياتي ليطلب مساعدات جديدة من أيام الرئيس الأميركي ليندون جونسون، وسارع زعماء موسكو الى تلبية طلبه، ومن بينها تأجيل سداد نصف الديون المصرية.

بعد موسكو، الى واشنطن. ففي شباط من العام ١٩٦٦، قام أنور السادات بصفته رئيسا لمجلس الأمة بزيارة رسمية الى الولايات المتحدة، أما هو فيمرّ عليها سريعاً، مشيراً خصوصاً الى شعوره بالانزعاج من هجوم عنيف شنّه عبدالناصر على الأميركيين عشية وصوله الى واشنطن. وكأن الرئيس أراد نسف الزيارة التي كان قد شجّع على إتمامها. شملت زيارة السادات سان فرانسيسكو، مكتشفاً هذا البلد الذي سحره، شأنه شأن كثير من المصريين. وبحسب مايكل سترنر، الموظف في وزارة الخارجية الأميركية، والمكلّف بمرافقته في خلال اقامته، فقد وجده الأميركيون لطيفاً، ودوداً، وذا فكاهة، ومنفتحاً، ومحبّاً للدعابة. أما هو فقد أثارت الولايات المتحدة اعجابه كثيراً. ولا شك بأنه بدأ يحلم مذذاك بادارة الظهر للأخ السوفياتي الأكبر للارتماء في أحضان العمّ سام.

في صباح ٥ حزيران شاعت معلومات ان اسرائيل شنّت هجوماً على مصر، وان سلاح الطيران قد ضرب وهو على الأرض.

في الثامن من حزيران، أبلغ عبدالناصر رفاقه عبر الهاتف ان الوضع قد انتهى، فقوات اسرائيل في طريقها الى القنطرة، بعد ان احتلت العريش، وان الفرقة الرابعة المدرعة، وهي أفضل الفرق في الجيش المصري، قد دمّرت تماماً.

ويصف سوليت الوضع ب المأساة، ويقول ان عبدالناصر توجه بكلمة الى المصريين، اعترف في خلالها بالمسؤولية الكاملة عن الكارثة التي حلّت، وأعلن استقالته، معيّناً مكانه زكريا محيي الدين، الذي يمثّل الجناح اليميني الموالي للأميركيين بداخل النظام. لكن الشعب المصري رفض ذلك، وسرعان ما تدفّقت الجماهير الى الشوارع راجية منه البقاء، وهي تهتف لا لزكريا! لا للدولار، لا للامبريالية!. وافق عبدالناصر على البقاء في السلطة، لكن تلك الهزيمة الساحقة شكّلت موته السياسي.

كان عبدالناصر يعدّ العدّة للتوجه الى المشاركة في مؤتمر لتحرير فلسطين نظمه الملك الحسن الثاني، ومن المحتمل ان يكون صارح أنور السادات بأنه مسافر، وقد عيّنتك نائباً لرئيس الجمهورية.

إلاّ أن محمد حسنين هيكل يقول ان عبدالناصر، دعاه الى الجلوس الى جانبه وعلى وجهه ابتسامة.

وقال له: هل تعرف ماذا فعلت اليوم، كان أنور السادات سيمرّ عليّ لكي يصحبني الى المطار، وطلبت منه ان يجيء معه بمصحفه. وعندما جاء فقد جعلته يقسم اليمين، ليكون نائباً لرئيس الجمهورية في غيابي. سألته عن السبب، فأجاب: اذا حدث لي شيء، فان أنور يصلح لسدّ الفترة الانتقالية. ان الاتحاد الاشتراكي والقوات المسلحة سوف يواصلان تحمّل المسؤوليات الفعلية. وفي فترة الانتقال فإن دور أنور سيكون شكلياً، ولكن… لماذا السادات؟ لأن الآخرين جميعاً واتتهم الفرصة ليكونوا نواباً لرئيس الجمهورية إلاّ أنور.

في ٢٢ أيلول ١٩٧٠، وفي آخر قمة عربية – في عصره، رافق عبدالناصر أمير الكويت الى المطار، فاذا به يحسّ بالعرق يتصبّب منه عند سلّم الطائرة، وعجز عن ان يخطو خطوة اضافية واحدة، فأعيد الى منزله مصاباً بأزمة قلبية حادّة، فاستدعي السادات عند الساعة السادسة مساء، لكنه وجد عبدالناصر قد فارق الحياة.

إلاّ ان أنور السادات له رواية أخرى، إذ شعر ان عبدالناصر أصابه إعياء شديد، فانسحب الى غرفة نومه.

كنّا وحدنا عبدالحكيم عامر وأنا، فاذا به يفاجئني بقوله انه تناول سيانور، فدهشت لأني أعرف من قراءاتي ان السيانور، اذا لمس الفم يموت من تناوله في أقل من ثانية. ومع ذلك أرسلت في طلب الأطباء لاسعافه، وفعلاً حضروا وأسعفوه.

أعيد المشير الى منزله ووضع تحت الحراسة، إلاّ أن السادات يقول انه تلقى اتصالا، بعد ثلاثة أسابيع، من عبدالناصر، يقول فيه بصوت يخلو من أي انفعال: عبدالحكيم عامر انتحر.

ماذا حدث بعد وفاة جمال عبدالناصر؟

وكيف تعامل قادة الثورة مع هذا الحدث الخطير؟

بعد ذلك اجتمع كبار معاوني عبدالناصر في إحدى غرف الطابق الأرضي للمنزل. وقرروا تكليف السادات – الذي سيتولّى الرئاسة بالوكالة لمدة ستين يوماً كما ينص الدستور – اعلان نبأ وفاة الرئيس عبر الاذاعة. وقد صحبه هيكل، وزير الاعلام والارشاد القومي، بسيارته الى مكتبه، حيث كتبا نص البيان. اكتشف السادات انه نسي نظارته. فأعاره هيكل، الذي سيصبح عدوّه مستقبلا، نظارته لكي يستطيع تلاوة البيان أمام الميكروفونات. –