IMLebanon

ضرب الميثاقية بفتك الحضور المسيحي وبابعاد عون المشرقي العروبي

في لحظات الصخب والعواصف في المنطقة المشرقيّة، يعلو النقاش في لبنان حول مسألة الميثاقيّة، كأنظومة متكاملة في الشكل والمضمون، إنّها أنظومة الحياة السياسيّة في لبنان، وهي جوهر الوجود اللبنانيّ، وما كان للعمارة اللبنانيّة بتنوّع ألوانها أن تتجلّى على بهائها المميّز لولا العمود الميثاقيّ الراسخ والثابت والضارب بأصوله في جوف الأرض. وفي واقع الأمور بحضورها المبدئيّ، لا يمكن الفصل بين الدستور والميثاق لا نظريًّا ولا تطبيقيًّا بحسب مصادر قانونية، فالدستور بمعظم موادّه ولد من رحم الميثاق سواءً كان دستور 1926 أو دستور 1990 بغضّ النظر عن الآراء النقديّة المتضاربة حول الدستور المنطلق من اتفاق الطائف. المسلّمات الميثاقيّة هي أساس كلّ شيء، وقد وضع المشرّعون بندًا صارمًا في مقدّمة الدستور حين قالوا أن «لا شرعيّة لسلطة تناقض ميثاق العيش المشترك».

ما هو ميثاق العيش المشترك؟ ولماذا لبنان فريد به؟ سؤالان يجب أن يطرحا في الظروف التي يمرّ بها لبنان، وليسا هما بنظريين، بل سؤالان كيانيان يجوبان في خواطر من عاصروا الأحداث اللبنانيّة بتداعياتها وذاقوا مرارتها واكتووا بنيرانها، ولا يزالان ساريي المفعول في خضم العواصف الكيانيّة الهوجاء والهابّة في المشرق العربيّ، ولبنان يريجّ بأثقالها المتراكمة على أرضه والمضافة على واقع زُجَّ فيه منذ اتفاق الطائف، ولم يحلّ هذا الاتفاق مسائل جوهريّة على حد قول المصادر التي لا تزال تمسّ كيانه بالجوهر الميثاقيّ كقضيّة المخيمات الفلسطينيّة ويضاف على تلك المسألة الخطيرة مسألة النازحين السوريين مع بلوغ عددهم في آخر إحصاء بحدود المليونين وثلاثمئة وخمسين نازحًا سوريًّا مع وجود مليون فلسطينيّ في المخيمات. كيف يمكن تجسيد ما ذهبت إليه مقدمة الدستور في كلّ هذا المسرى الشائك المهدّد للحالة الكيانيّة، وعليه يتوكّأ الإسلام السياسيّ في التأكيد على سيادته المطلقة على الرغم من بعض النتائج التي قد تكون في سوريا مخالفة لسيادته؟

ليس السجال المفتوح حول ميثاقيّة الجلسة الحكوميّة معصومًا ومنفصلاً عن هذا الجوهر المتداعي بشدّة. وليس، تاليًا، محصورًا في مسألة التمديد لقائد الجيش مع معرفة دقيقة عند من يتعاطى بهذا الملفّ بأنّه خرج من النطاق المحليّ وعرضه مستورد أميركيًّا هذا إذا لم يمل على من يمسكون بالسلطة السياسية، وقد أملي بالتوافق مع معظم القوى المؤثّرة في الخيارات السياسيّة في لبنان. لقد قال الأميركيون وبحسب مصادر دقيقة ومتابعة بأنّ الفراغ في قيادة الجيش خطّ أحمر وليس حميدًا أن يسود من رئاسة الجمهوريّة إلى قيادة الجيش في ظلّ ما تعيشه المنطقة.

المسألة وبحسب الأوساط المتابعة أبعد بكثير من عملية التعيين المرتقبة، إنها مسألة وجود يتمّ قضمه شيئًا فشيئًا، والميثاق اللبنانيّ كعقد متحرّك ومحرّك للكيان اللبنانيّ لم يعد فقط مهزوزًا بل مخطوفاً ومفقوداً، وقد آن وقت الاعتراف من قبل كثيرين بأنّ مسيحيي لبنان مهددون ليس بسبب تلك المسألة حتمًا، ولكن لأنّ الإسلام السياسيّ لا يرى لبنان فريدًا بالجوهر المسيحيّ، الذي لولاه لما كان الميثاق قائمًا، ولا يرى مؤسساته ساطعة بالحضور المسيحيّ الفاعل، ولا يريد رئيسًا قويًّا يمتاز بالصفات الميثاقيّة المميزة سواء انطبقت على العماد ميشال عون أو على سواه. وتضيف تلك الأوساط، بأنّ أربعة رؤساء موارنة تبوّأوا منصب رئاسة الجمهوريّة، واحد استشهد وهو رينه معوّض لم تعطَ له الفرصة ليحكم لبنان لأنّه كان ميثاقيًّا بامتياز وشاء بالتالي حلّ قضيّة العماد عون بالسياق الميثاقيّ الهادئ والرصين، واثنان آخران لم يحتجّا باسم مارونيتهما على الهتك بالميثاق الوطنيّ بل تفرّجا على عملية الهتك بلا ممانعة بعناوين عديدة كالتجنيس وتدفّق اللاجئين، باستثناء العماد إميل لحود الذي أثبت رجولة واضحة ونظافة كفّ في مواجهة الإسلام السياسيّ، أو السنيّة السياسيّة. وتضيف تلك الأوساط، بأنّ المسألة كيانيّة بالأهداف المرسومة لها، فالمسيحيون دفعوا أثمانًا باهظة، ليس فقط في الحرب أو في تمزّقهم الذي هيمن على تاريخهم السياسيّ، وهم لا يزالون يدفعون الثمن عينه، مع الفرق الواضح بأنّ الثمن الأول تمّ بسقوط المارونيّة السياسيّة واضمحلال الحضور المسيحيّ على مستوى السلطة السياسيّة ومؤسسات الدولة واستيلاد المسيحيين في كنف الآخرين، بحجب حريّة القرار عنهم والتعاطي معهم بمنطق الغالب وهم المغلوبون أو المغلوب على أمرهم.

قمّة الخطورة في منطق ضرب الصيغة الميثاقيّة، قائمة في الثمن الثاني المطلوب دفعه تضيف الاوساط، مع وصول المنطقة بأسرها نحو التحوّلات الجذريّة الكبرى ومع الكلام المثار بان ثمّة خريطة سياسيّة ترسم، فالثمن الأوّل استيلادهم وتحويلهم إلى حالة متلاشية لا قرار لهم في وجود معطوب ومثقوب، في الحين أنّ الثمن الثاني إلغاؤهم من لبنان، بدءًا بتقويض كلّ مسعى يحاول فيه المسيحيون أن يستعيدوا منطق الشراكة الكاملة وليس المجزّأة والمبنيّة على مزاجيّة الطوائف بارتكازها على آحاديتها. هناك عملية إلغاء مبرمجة ضمن عناوين مفتوحة على عوامل عديدة وبعناوين كثيرة بدءًا من التمديد ليس لقائد الجيش العماد جان قهوجي حصرًا ولكن للمجلس النيابيّ، فيقود التمديد لقائد الجيش نحو صفقة واضحة إمّا القبول بقانون الستين أو فالتمديد للمجلس النيابيّ، والتخيير المفتعل بتلك المسألة يفقد الفريق المسيحيّ قدرة التحكّم بمسالة الانتخابات الرئاسيّة، فيسقط الإجماع المسيحيّ على العماد ميشال عون، أمام واقعيّة ستفرض ذاتها انطلاقًا من استسلام المسيحيين إن حصل للتمديد أو التسليم بقانون الستين، والحالتان ستنتزعان القدرة على الاستمرار بالترشيح أو الترشّح.

يسوغ القول وفي هذا السياق بأنّ المعركة التي يخوضها التيار الوطنيّ الحرّ عنوانها ميثاقيّ بامتياز، وحين يعلو صوت رئيسه جبران باسيل قائلاً: «ملعون كل من يحاول اقتلاعنا من مجلس الوزراء بعقد جلسة غير ميثاقية، وملعون منا كل من يحاول اقتلاعنا من مجلس النواب بقانون انتخاب غير ميثاقيّ، وملعون منا كل من يحاول اقتلاعنا من رئاسة الجمهورية للإتيان برئيس غير ميثاقيّ، وملعون من الله كل من يحاول اقتلاعنا من أرضنا»، فإنّه انطلق من فهم دقيق لسياق إلغائيّ بالكامل وعموديّ بدءًا من مجلس الوزراء وصولاً إلى قانون انتخابات حتى رئاسة الجمهوريّة، ومن انتقد باسيل، وبخاصّة من ضمن الأدبيات المسيحيّة له ان يتذكّر عظة المسيح على الجبل حين وبّخ الفريسيين وقال لهم «الويل لكم أيها الفريسيون، الويل لكم أيها المراؤون»، فليعد من انتقد جبران من باب الأدبيات الروحيّة إلى إنجيل متى وبالتحديد إلى العظة على الجبل، فليتذكّر كيف من انتقد الرجل كيف المسيح جدل سوطًا ودخل الهيكل وقال: «بيت أبي ليس للصيارفة وباعة الحمام».

الهتك بالمعايير الميثاقيّة في ظلّ العناوين المثارة، فتك بالوجود المسيحيّ اللبنانيّ وهو على ما يبدو في مراحله المتقدّمة. وتقول بعض المعلومات الواضحة بأن رفض الإسلام السياسيّ للعماد ميشال عون ينطلق من مسلمات بتماه جليّ مع ما يحصل لمسيحييّ المشرق، وقد ظهرت معلومة تقول بأن بلدة محردة في حماه مطوّقة ومهدّدة. والمسلمات عناوينها واردة في مواجهة بعضهم لترشيح عون: بحسب الاوساط:

1-ميشال عون خطر على السنيّة السياسيّة بتبنيه لورقة التفاهم مع حزب الله والتأكيد على حلفه الاستراتيجيّ معه عموديًّا وأفقيًّا. ونتج حلفه مع سطوع لشيعيّة سياسيّة تتلاقى والطموح المسيحيّ باستعادة فلسفة الشراكة السياسيّة ضمن منطق الديمقراطيّة التشاركيّة أو الشركويّة.

2-ميشال عون خطر على السنيّة السياسيّة بسبب حلفه المستجدّ مع القوات اللبنانيّة بشخص رئيسها الدكتور سمير جعجع، وقد أكّدت زوجته النائبة ستريدا في افتتاح مهرجانات الأرز بأن التحالف استراتيجيّ وإلى الأبد. والشيء المستجدّ والذي قد يبشّر بدوره بحراك جديد قد يتحوّل مع الوقت إلى معطى الحوار الصامت بين القوات اللبنانيّة وحزب الله وإن تمثّل بمسعى شخصيّ ولكنّه حميد وقد يملك القدرة على فكفكة العقد العقيديّة الصلبة مع الوقت في ظلّ التبدلات الاستراتيجيّة الكبرى في المنطقة. ويجب الملاحظة في هذا البند بأنّ سمير جعجع بدوره خطر على السنيّة السياسيّة اللبنانيّة، وبخاصّة بأنّه على تواصل مع السعوديين وقد يملك القدرة بدوره على تطويع الرؤية السعوديّة الممانعة بمجيء العماد عون بسعي ما، يؤدّي إلى بلوغ لبنان مرحلة جديدة.

3-ميشال عون بالمعاني الكبرى المتكدّسة في ذاته والمتدفقّة من عقله خطر على الإسلام السياسيّ في الإقليم الملتهب، فهو مارونيّ-مسيحيّ، لبنانيّ-مشرقيّ، عروبيّ متداخل في البنية الحضاريّة الكونيّة، مدمن على الإسلام القرآنيّ بجوهره الطيب، المتحرر من حروفيّة متشدّدة بوضوح أو المخفيّة بليبرالية مقنّعة. فوصوله بهذه الصفات فيه، يعنيّ أنّه ليس فقط رئيسًا للجمهوريّة اللبنانيّة، بل هو رئيس للجمهوريّة المبنيّة على الميثاق، أي سيكون ميثاقيًّا مبطلاً للطائفيّات السياسيّة في اشتهائها كلَّ توسّع، وفي الوقت سيكون رئيس جمهوريّة قائمة على الصيغة التشاركيّة أو الشركويّة بين معظم المكوّنات، واستطرادًا سيكون رئيسًا لمسيحيي المشرق العرب بهذا البعد المكنون فيه، مجسّدًا ما كان يقوله كبار من المسيحيين المعاصرين في سوريا ومصر بأن الموارنة هم صمام أمان وضمان كبير لموجوديتنا فإن تمزقوا ضعفنا وإن أبيدوا انتهينا. هذا الكلام المعّبر يفسّر هدف الإسلام السياسيّ في محاربة وصول عون للرئاسة ويفسّر ايضًا الحرص على استبقاء المسيحيين مهيضي الجناح، ولن يكون حلّ في لبنان، إلاّ بعملية جراحيّة تنتج تعديلاً للدستور، أو، مؤتمرًا وطنيًّا تأسيسيًّا لجمهورية جديدة تستعيد الميثاق بالمناصفة والشراكة المطلقة.