IMLebanon

إيران ما بعد الحصار: صراع الرهانات

تعيش إيران هذه الأيام حماوة معركة انتخابية، إطارها سياسي وأدواتها إعلامية وذخيرتها اقتصادية، فيما تحدد نتائجها معالم المعركة المقبلة على سدة الرئاسة، في ظل رهانات متناقضة حول تأثيرات رفع الحصار، على خلفية البدء بتنفيذ الاتفاق النووي، إن لناحية تدفق الرساميل على إيران، أو لجهة «التغلغل الغربي» بغض النظر عن العباءة التي يرتديها

«الوضع الأمني هادئ جداً، ولا مؤشرات إلى تحديات أمنية لا داخلية ولا خارجية»، عبارة يردّدها كل معني في الملف الانتخابي في إيران رداً على سؤال يتكرر دائماً، سواء بصيغة الاستفهام أو على شكل تحليلات «تبشر» بمعركة حامية الوطيس يمكن أن تهز أركان نظام الحكم في الجمهورية الإسلامية، حيث «التغلغل الغربي» خطر واضح يحد من إمكانية التعبير عن نفسه عملياً «وعي القيادة به وإدراكها له» واستنفار الأجهزة المعنية لمواجهته.

لكن ذلك لا يلغي مفاعيل الصراع الداخلي في بلد يتميز بحيوية سياسية مشهودة تعتبر الاستحقاقات الانتخابية محطات استثنائية فيها.

يبدو واضحاً أن الإيرانيين منقسمون، في ما يتعلق بانتخابات مجلس الشورى، إلى أربع فئات: الأولى أصولية مشكّلة من مجموعة من الأحزاب والشخصيات التي تنتمي غالبيتها إلى البرلمان الحالي، ومن أبرزها الرئيس السابق للبرلمان غلام حداد عادل. والثانية إصلاحية، وهي مشكّلة أيضاً من أحزاب وتيارات وشخصيات يمكن القول إن المرشح السابق لانتخابات الرئاسة محمد رضا عارف يمثلها بصفته الأمين العام للجنة التنسيق التي شُكلت في ما بينها. أما الثالثة، الوسطيون، فهي مشكّلة من المجموعة الداعمة للرئيس الحالي حسن روحاني، وهي أقرب إلى الإصلاحيين منها إلى الأصوليين. تبقى المجموعة الرابعة المشكّلة من شخصيات مستقلة، ويغلب على اهتمامها طابع الشؤون المحلية بالمعنى الضيق للكلمة.

تسلم المجموعة الأولى بواقع أن استعادة سيطرتها المطلقة على البرلمان، على ما هو الوضع حالياً، فيه شبه استحالة، أخذاً بالاعتبار أمرين: الأول، تقليدي، يفيد بأن البرلمان يأتي عادة على صورة رئيس البلاد، بمعنى آخر موالٍ للعهد القائم. معادلة لم يشذ عنها أي برلمان منذ قيام الثورة إلى يومنا هذا. أما الثاني، فيأخذ بالاعتبار أجواء ما بعد الاتفاق النووي ورفع الحصار، والآمال التي تعمّدت إدارة روحاني بثها بتحقيق الرفاهية والازدهار. ومع ذلك، يعتقد الأصوليون أنه لا يزال بإمكانهم الفوز بالكتلة البرلمانية الأكبر إن نجحوا في ردم خلافاتهم والاتفاق على لائحة موحدة في إيران كلها. من هنا، شكل الأصوليون لجنة من العلماء مهمتها أن تختار، من بين المرشحين الأصوليين، لائحة موحدة في ظل تفاهم على أن تنسحب من السباق كل الأسماء المستبعدة منها.

المجموعة الثانية، الإصلاحية، تبدو قسمين: الأول، يريد إرباك المشهد الانتخابي. وهذا القسم مكوّن من مرشحين يعرفون تمام المعرفة أن لديهم ملفات أمنية وقضائية ستؤدي حتماً إلى استبعادهم من السباق. ومع ذلك، مضوا في ترشيحهم في محاولة واضحة لفتح معركة مع مجلس صيانة الدستور. أما القسم الثاني، فبنى مشاركته على فرضية أنه يمتلك قاعدة انتخابية معتبرة، يدعي أنها هي من أوصل حسن روحاني إلى سدة الرئاسة في الانتخابات الرئاسة الماضية. ويرى هذا القسم أنه إذا عاد إلى الميدان الانتخابي، هو قادر على أن يشكل كتلة برلمانية وازنة تمهد لعودة الإصلاحيين للمنافسة بصورة جدية في انتخابات الرئاسة المقبلة. كذلك، يؤكد هذا القسم أنه قادر، بالمرشحين الذين عبروا عتبة مجلس صيانة الدستور، على المنافسة بلائحة في كافة الدوائر الانتخابية في الجمهورية الإسلامية.

المجموعة الثالثة، الوسطيون، يحاولون إعادة بناء الخيار الثالث في إيران، ويسعون جاهدين إلى نصر انتخابي يضمن التجديد للرئيس الحالي في الانتخابات الرئاسية المقبلة. تسعى هذه المجموعة، التي تمتلك مستوى عالياً من الانسجام وقوة دفع ذاتية، إلى استقطاب مجموعة من الشخصيات، تمزج بين اليسار الأصولي واليمين الإصلاحي، لعل أبرزها الرئيس الحالي لمجلس الشورى علي لاريجاني. راهنت هذه المجموعة، بلا شك، على أجواء ما بعد تنفيذ الاتفاق النووي والنجاح الاقتصادي لروحاني، إلى الحد الذي جعل البعض يعتقد بأن الرئيس الإيراني استعجل تنفيذ هذا الاتفاق قبل الانتخابات للاستفادة منه يوم الاقتراع.

بعض المتابعين يرون أن رفع الحصار لم يؤثر بعد كثيراً في مزاج الرأي العام، لكون موجة التأثيرات الاقتصادية المتوقعة لم تصبح ملموسة لدى العامة بعد. ومع ذلك، يعتقد بعض آخر أن إدارة روحاني تبدو ناجحة في الاستفادة من البيئة الإعلامية، حيث تتكاثر الوعود بالانفراجات وبالرفاهية.

تحسم التقديرات، لدى مختلف الأطراف، بأن الأصوليين والوسطيين يتنافسون على الكتلة البرلمانية الأكبر في البرلمان. إن حلّت مجموعة روحاني في الصدارة، يصبح دور الإصلاحيين (الذين سيكونون الكتلة الثالثة) في البرلمان المقبل ثانوياً. أما إذا كانت الكتلة الأكبر من نصيب الأصوليين، فستصبح الكتلة الإصلاحية بيضة القبان، ما يعطيها هامشاً يمكنها استغلاله لتحقيق مكاسب حكومية وعودة شعبية.

طبعاً هناك من يحذر، أو يأمل، في كلا المعسكرين، بتسونامي «وسطي» يكتسح البرلمان، أخذاً بالاعتبار وجود قوى وبنى محليّة متعطشة إلى الانفتاح الاقتصادي. لكن العارفين بخفايا اللعبة يتحدثون عن مقاربة مختلفة. يؤكد هؤلاء أن أولويات الرأي العام في إيران اقتصادية بامتياز، لكنهم يضيفون أن الإصلاحيين «لا برنامج اقتصادياً لهم. لم يكونوا يوماً في كل تاريخ إيران، أهل اقتصاد». ويتابعون أن «مجموعة روحاني ليس لديها أكثر مما تقدمه الحكومة الحالية». أما الأصوليون، بحسب وجهة النظر نفسها، فيركزون هذه الأيام، أكثر من أي وقت مضى، على ما بات معروفاً باسم «الاقتصاد المقاوم».

لكن كيف ستتم ترجمة ذلك في صناديق الاقتراع؟ يقول أصحاب وجهة النظر هذه إن الإيرانيين جرّبوا الانفتاح الاقتصادي في عهد الرئيس الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني، واكتشفوا أن «ثمن هذا الانفتاح يأتي دائماً على حساب الطبقة الوسطى والفقراء». أمر ليس تفصيلاً في المجتمع الإيراني، حيث تصدى الأصوليون في مجلس الشورى الحالي، للسياسة الليبرالية لإدارة روحاني أكثر من مرة، بينها رفضهم لأي قانون يرفع سعر المحروقات، والمطالبة بقانون يرفع الدعم عن الطبقات الميسورة لمصلحة الطبقات الفقيرة.

أكثر من ذلك. يتحدث أصحاب وجهة النظر هذه عن أن وعود روحاني يمكن أن تنقلب في لحظة ما ضده، وربما تؤدي إلى خسارته الانتخابات الرئاسية المقبلة. يوضحون أن الأرصدة الإيرانية المجمدة، في الحسابات المتفائلة، لا تتجاوز الـ130 مليار دولار، القسم الأكبر منها سيبقى في الخارج تحت عنوان ضمان العقود والصفقات التي تبرمها الحكومة الإيرانية (مثل صفقة طائرات الـ»إيرباص»)، أو كضمان للاستيراد والتصدير. يضيفون أن القسم الذي سيدخل إيران ويقدر بنحو 30 مليار دولار، سيتبخّر في لحظتها، لكونه سيستخدم لتسديد الديون الداخلية للحكومة، وهي أكبر بكثير من الودائع، لمصلحة البنك المركزي الإيراني (هيئة مستقلة عن الحكومة) والمصارف الخاصة والشركات المحلية، والجزء الأكبر منها تابع للحرس الثوري (درتها «خاتم الأنبياء») الذي نفذ عقوداً لمصلحة الحكومة، على مدى سنوات الحصار، تقدر بعشرات المليارات لم يتقاضَ منها ريالاً واحداً.

بل هناك حساب من نوع آخر يتعلق بالإنتاج النفطي يقول إن إيران كانت تنتج، قبل الحصار، أربعة ملايين برميل يومياً، تستهلك منها مليوناً ونصف مليون وتبيع للخارج 2.5 مليون بسعر 120 دولاراً للبرميل الواحد. يضيف أنه في أوج الحصار، كانت إيران تصدر 300 ألف برميل يومياً بسعر 80 دولاراً للبرميل الواحد. أما اليوم، وفي حال العودة إلى تصدير 2.5 مليون، سيحصل ذلك بسعر 25 دولاراً للبرميل إن لم يكن أقل، ما يعني أن عائدات الحكومة من تصدير النفط لن تكون أكبر بكثير مما كانت عليه في أوج الحصار.

أما بالنسبة إلى تدفق الاستثمارات، فتقول وجهة النظر هذه إنها لا شك ستحرّك عجلة الاقتصاد الإيراني. لكنها استثمارات دونها عوائق تحدّ من انسيابها، أبرزها حرص طهران على ألّا تعيد أخطاء ما قبل الحصار عندما غادرت الشركات الأجنبية البلاد بين ليلة وضحايا، وتركت مشاريعها غير منجزة دون دفع أي تعويض. من هنا، تشترط إيران، في هذه العقود ثلاثة أمور أساسية: الأول فرض غرامات جزائية على الشركات التي تخل بالتزاماتها. والثاني التزام تلك الشركات إبقاء التقنيات المستخدمة في إيران مع انتهاء العقد الذي ستكون ملزمة في خلاله تدريب الكادر الإيراني العامل في المشروع. والثالث ضمان استمرار تزويد الشركات لإيران بقطع الغيار مهما كانت الظروف. (على سبيل المثال، يُشترط في أي عقد لإنتاج سيارات في إيران أن تلتزم الشركة أن يصبح 70% من الإنتاج، خلال ثلاث سنوات من بدء تنفيذ العقد، محلياً مئة في المئة). يضاف إلى ذلك خشية طهران من انهيار الاتفاق النووي في أي لحظة يخل فيها الغرب بالتزاماته. وهي لذلك ترفض إبرام عقود استثمارية طويلة الأجل مع الشركات الغربية تحسباً ليوم كهذا.

خلاصة الحديث، أن الاقتصاد الإيراني بحاجة إلى معدل نمو من 8 في المئة للاستجابة لمتطلبات سوق العمل، حيث معدل البطالة الحالي يتجاوز الـ15 في المئة (الرقم الرسمي 11 في المئة). جماعة روحاني يراهنون على الاستثمار الداخلي، ويتحدثون عن إمكانية تسييل مخزون إيران من الذهب (يقدر بنحو 12 طناً). في المقابل، يراهن الأصوليون والإصلاحيون على فشل الرئيس الحالي في المشروعات الكبرى التي تؤثر في معيشة المواطن، ويجهّزون أنفسهم للمنافسة في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

قضية حسن الخميني

من هنا يمكن فهم الملابسات التي رافقت الترشح لانتخابات مجلس الخبراء، خصوصاً تلك المتعلقة بحسن الخميني، الذي يراهن عليه الإصلاحيون ليكون مرشحهم في الانتخابات الرئاسة المقبلة، أو التي تليها، حسب الظروف.

لا بد أولاً من الإشارة إلى أن المرشحين إلى مجلس الخبراء هم من العلماء الذين لا يكونون عادة من أهل الصراعات السياسية، ويرون أنفسهم أكبر من الانقسامات الحزبية. فضلاً عن أنها انتخابات لا تثير حماسة الشارع الإيراني، ما فرض إجراءها بالتزامن مع الانتخابات البرلمانية لضمان مشاركة معتبرة فيها.

لكن نظراً إلى حساسية المجلس، الذي ينحصر دوره الفعلي عملياً في لحظة شغور موقع ولاية الفقيه بالوفاة أو بالعجز، تم الاشتراط لأهلية الترشح للأعضاء الجدد الخضوع لامتحان اجتهاد امتنع كثر عن خوضه من كل التيارات، فرفضت طلبات ترشّحهم. من بين هؤلاء حفيد الإمام الخميني، حسن، الذي يتهمه خصومه بأنه خشي الرسوب، ما ينعكس سلباً على موقعه في الحوزة.

ومعروف أن من شروط الترشح إلى انتخابات الرئاسة، أن يكون المرشح رجل سياسة. صفة لا يمكنه الحصول عليها إلا إذا تصدى لمناصب حكومية، كان الإصلاحيون يأملون أن تكون عضوية مجلس الخبراء باكورتها. وعليه، يصبح استبعاد حسن الخميني من انتخابات مجلس الخبراء ضربة لطموحاته وطموحات الإصلاحيين الذين يستثمرون فيه ويسعون إلى تأهيله لانتخابات الرئاسة.

من رفض مرشحي «الشورى»؟

كثر الحديث خلال الأيام القليلة الماضية، في داخل إيران وخارجها، عن أن «مجلس صيانة الدستور» رفض طلبات نحو 90 في المئة من المرشحين إلى انتخابات مجلس الشورى. اتهامات يبدو واضحاً أنها لا تنسجم مع الواقع الذي يفيد بما يلي:

هناك ثلاثة مستويات رقابة على مرشحي هذا المجلس: الأول هيئة مراقبة حكومية (أي تكون تابعة لإدارة الرئيس حسن روحاني) مؤلفة من أطراف ثلاثة هي إدارة الأحوال الشخصية (تتأكد أن المرشح لا يتمتع بجنسية أجنبية ويتحدر من عائلة إيرانية صافية لا أجانب فيها)، والقضاء (الذي يتأكد أن لا أحكام صادرة بحق المرشح)، ووزارة الأمن (التي تتأكد أن لا شبهات أمنية حوله). المستوى الثاني يتشكل من هيئات مركزية في كل المحافظات تبتّ شكاوى المرشحين الذين رفضت ترشحهم الهيئة الأولى. أما المستوى الثالث، فمجلس صيانة الدستور، الذي يبت من جهة قرارات الهيئات المركزية ولديه في الوقت نفسه سلطة استنسابية لرفض طلبات مرشحين أخذاً بالاعتبار مجموعة من المعايير التي يحددها القانون ولوائحه الداخلية (بينها الالتزام الديني، وحسن الأخلاق، وغيرها).

تؤكد مصادر معنية بالملف الانتخابي في طهران أن غالبية طلبات الترشح التي رفضت، استبعدتها هيئة المراقبة الحكومية، لا مجلس صيانة الدستور.