IMLebanon

الصراع المستمر!

مع انطلاقة الحملات الانتخابية لسباق الرئاسة في الولايات المتحدة، يعود مجددا الحديث عن علاقة السياسة بالدين، خصوصا فيما يتعلق بمرشحي الحزب الجمهوري المحافظ الذي يؤثر ويتأثر بالناخب المسيحي المتشدد والموجود بكثافة في المنطقة الجغرافية المعروفة بالحزام الإنجيلي التي يتجاوز تعداد سكانها 75 مليونا ويشكلون مجتمعين كتلة تصويتية مؤثرة يتعالى صوتها ويزداد تأثيرها مع مرور الوقت.

الآن، هناك حيرة هائلة وخوف كبير لدى هذه المجموعة المؤثرة مع ضغوطات اجتماعية غير مسبوقة لأجل إصدار تشريعات وسياسات «صادمة»، مثل بيع الماريغوانا (وهي نبات مخدر كان محاربا ومحظورا، بدأت مؤخرا بعض الولايات السماح ببيعه)، والسماح بحق الزواج بين الشواذ جنسيا وهي ظاهرة آخذة في الانتشار، بل إن بعض الولايات (أشهرها ولايتا أركانسو وأنديانا) حاولت استصدار قانون يحق لصاحب المؤسسة ألا يخدم ولا يبيع الشواذ جنسيا، وذلك استنادا إلى معتقده الديني الذي يحرم عليه القيام بذلك، وقامت الدنيا وحصلت موجة هائلة من الاحتجاجات والمظاهرات والتنديدات والاستنكارات الشعبية الواسعة ليست في الولايتين فحسب، ولكن على صعيد الولايات الأميركية جميعا، مما جعل المشرعين يتراجعون عما طرحوه.

إنه مشهد جديد من أزمة «الدين مع السياسة» في أميركا. المسيحيون الجدد، أو كما يطلق عليهم اسم «الإنجليكيون»، هم الصوت الأعلى والأشد في الدفاع عن «القيم المسيحية» لحماية السياسة والمجتمع في أميركا كما يعرفون مهمتهم وأهدافهم وقيمهم ورسالتهم، وهم يركزون على ذلك الأمر بشكل تصاعدي ومؤثر وفعال لأكثر من مائة عام تقريبا، ويعتمدون على رؤية أساسية مفادها أن كل شيء يجب تفسيره بعلامات ونبوءات نهاية الزمان، وهم بذلك يعتمدون على قراءة وتفسير شديد التطرف ومثير للجدل لسفر النبوءات في العهد الجديد من الإنجيل، فهم يعتقدون أن كل أحداث العالم ما هي في حقيقة الأمر إلا علامات وإشارات على قرب ظهور المسيح الحتمي، ولكن المعضلة بالنسبة لهذه المجاميع المؤثرة التي لها ثقل مهم جدا في أروقة الكونغرس الأميركي وعدد كبير من الولايات، هي كيف تلهي نفسك بالسياسة وتركز عليها وتصرف وقتا ومالا وتبذل جهدا كبيرا إذا كانت «النهاية» قد أزفت وقربت وآن وقتها؟ فتخرج مدرسة أخرى أشد تطرفا من ذات المجموعة لتقول بنبرة إنجيلية صرفة إن علينا «احتلال» العالم، بينما نحن ننتظر ونعد العدة لليوم الأخير. وبالتالي، كان ذلك يعني على الدولة تبني السياسات والمواقف والتشريعات المحافظة والدعم المطلق واللامحدود لدولة إسرائيل، فهي أرض الميعاد وفيها المشهد الموعود لعودة المسيح ومنها تقام معركة هرمغدون الكبرى التي تنهي الصراع بين الشر والخير. هذه هي الرؤية التي يصفها بدقة وبراعة الكاتب الأميركي المتخصص في هذه الشؤون السياسية الدينية ماثيو آفيري ساتون في كتابه الممتع المهم «نهاية الزمان الأميركية» والصادر عن دار جامعة هارفارد المرموقة للنشر، وهذا يذكرنا «بالهوس» عن تدخل الخط المحافظ الإنجيلي للمسيحيين الجدد إبان حقبة الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان الذي كان قد كتب في مذكراته: «أحيانا كثيرة أتأمل إذا كان قدرنا أن نرى بأنفسنا معركة هرمغدون ونهايات الزمان».

الولايات المتحدة لا تزال هي آخر معاقل صراع الدين والسياسة في العالم الغربي، لأن أوروبا تخلصت من هذه الجدلية منذ زمان ليس بالقليل، وإن كان يبقى حضور مهم ولافت للكنيسة في دول مثل اليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال فيما يتعلق بالسياسات الاجتماعية ولا شك. والمشاهد التي تحصل في كافة مناطق الشرق الأوسط، وإلى درجة أخف في مناطق مختلفة في آسيا وأميركا اللاتينية، هي نتاج العلاقات الشائكة والمعقدة وغير الواضحة بين الدين والسياسة، وهذا التداخل الحاد أدى إلى حروب ومواجهات وتطرف وتدمير لا يتوقف، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فحسب، ولكنه تخطى الساحة ليتحول إلى صراع ليس بين الدين والسياسة، ولكن بين المذهب والطائفة والدين والسياسة ليهبط الحوار والجدال والصراع إلى جذور خطيرة ومدمرة فيها من التشدد والتهور ما أصبح خارج نطاق السيطرة والحكمة والمنطق والعقل ولا يزال حتى هذه اللحظة هو وقود الحروب وأهم وأقوى أسبابها.

دولة الحقوق والمواطنة التي توفر كيانا ضامنا بالقانون يعدل بين الجميع سيجعل لكل هذه المهاترات والخلافات والصراعات والحروب باسم السياسة والدين، الحيز المقيد والمحدود الذي لن يسمح له بتدمير الدول والشعوب تحت أي شعارات مهما كانت براقة وجذابة وتحت أي نيات مهما كانت سليمة ومثالية.

الصراع بين الدين والسياسة مستمر حتى يوضع في إطار القانون، لأنه هو وحده الذي سيمنع طغيان الواحد على الآخر.