IMLebanon

نفطنا بين النهب الإسرائيلي والسمسرات المحلية

من الضروري الإسراع في اتخاذ كل التدابير اللازمة لمنع اسرائيل من سرقة البترول والغاز من المنطقة الاقتصادية الخالصة العائدة للبنان. ومن البديهي أن هذه الضرورة قد اصبحت أشد إلحاحاً من أي وقت مضى، على ضوء المحادثات الجارية بين إيطاليا وإسرائيل، عبر شركتي «إيني» و»أديسون»، حول تعاون واسع يشمل نقل الغاز الإسرائيلي والقبرصي وربما المصري الى اوروبا، وامكانية مساهمة الشركات الإيطالية في عمليات التنقيب والإنتاج من حقلي «كاريش» و»تانين» القريبين من الرقعتين 8 و9 في المياه اللبنانية. وإن تم ذلك، يصبح بإمكان العدو الصهيوني الضخ من مخزون هاتين الرقعتين بواسطة آبار أفقية تحفر تحت مياه المتوسط. كما أن ذلك يعني أن شركة «إيني» التي سبق وأبدت اهتماماً كبيراً بالتعاون مع لبنان، قد فقدت، أو كادت تفقد الأمل، شأنها في ذلك شأن بعض الشركات العالمية الأخرى، بعدما لمسته من انحرافات وسمسرات في مستنقع البهلونيات اللبنانية. ولم يعد سراً لأحد أن النزاع مع اسرائيل كان نتيجة «سهو» حصل من الجانب اللبناني عند القبول بخط أعوج في ترسيم الحدود مع قبرص في العام 2007. وبرغم تنبه السلطات اللبنانية فيما بعد لهذا الخطأ وإقدامها على تصحيحه في وثائق قدمت للأمم المتحدة، فقد تذرعت اسرائيل بالاتفاق الموقّع مع قبرص لترسيم حدودها مع لبنان بشكل يسلبنا مساحة 855 كم2، تغطي مكامن واعدة من البترول والغاز. ومن الغريب، وهذا أقل ما يمكن أن يقال، إنه لم تتم حتى الآن أي مساءلة ولم يتم أي تحقيق حول أسباب وهوية المسؤولين عن «سهو» قد يقودنا الى حرب مع الكيان الصهيوني، علاوة على خسائر فادحة والتأخر سنوات وسنوات في استثمار الثروة النفطية الموعودة.

لكن مهما كانت أهمية وخطورة هذا النزاع الذي أعطى اسرائيل حجة لمحاولة السطو على مقدرات وحقوق اللبنانيين، فالواقع أن هذا الموضوع قد أصبح ستاراً يستعمله البعض لصرف الانتباه ولتغطية نوع آخر لا يقل عنه خطورة، الا وهو محاولات السطو من قبل بعض السماسرة والمغامرين اللبنانيين الذين رأوا في احتمال التأكد من وجود البترول والغاز في لبنان فرصة العمر لتكديس الثروات لهم ولأولادهم وأولاد أولادهم. محاولات لم تكن هذه المرة وليدة سهو ما، بل جاءت في اطار ترتيبات ممنهجة وانحرافات بدأت بتزوير بعض الأحكام الأساسية في القانون البترولي 132/2010، ولا تنتهي بتأهيل «رسمي» لشركات وهمية لا وجود لها إلا على الورق للحصول على حقوق استكشاف وإنتاج قبالة الشواطئ اللبنانية، مروراً بشروط استثمار مغرية لا تحلم الشركات الأجنبية بها في أي بلد آخر. هذا كله يتطلب شرطين أساسيين: الأول هو التحايل على القانون أو القفز ما فوق القانون والدستور. أما الشرط الثاني فهو العمل بأقصى ما يمكن من السرعة والسرية لتجنب فتح عيون ومساءلة اللبنانيين. وهذا فعلا ما حصل وما زال كما تدل على ذلك الوقائع والتالية.

ممنوع على الدولة، متاح للسماسرة!

من أخطر ما جاء في بعض مشاريع التشريع البترولي اللبناني هو تزوير صارخ لقانون 132/2010، أدى الى كف يد الدولة عن استثمار ثرواتها وحرمانها من امكانية الممارسة الفعلية لحقوق الملكية والسيادة على هذه الثروات، علاوة على تعطيل آلية المراقبة على الشركات الأجنبية. هذا التزوير قام به واضعو مشروع المرسوم التطبيقي الخاص بنموذج اتفاقيات التنقيب والإنتاج، الذي يتجاهل تماماً «نظام تقاسم الإنتاج» المعروف في العالم، والذي ينص عليه صراحة القانون المذكور، ليستعيضوا عنه بمفهوم «تقاسم الأرباح» الذي لا وجود له في معجم صناعة البترول. ذلك أن هذا المفهوم المستحدث يتعارض ومشاركة الدولة الفعلية في استثمار ثرواتها ويعيد لبنان عشرات السنين الى الوراء، أي الى الامتيازات القديمة التي قامت كل الدول المنتجة بتصفيتها في القرن الماضي لوضع حد لتحكم الشركات الأجنبية بأعناقها وأرزاقها طوال ما يقارب نصف قرن.

هذه القفزة النوعية ما فوق القانون وفوق الدستور مرت مرور الكرام في المادة رقم 5 من مشروع النموذج المقترح للاتفاقيات مع الشركات، والتي تنص بالحرف الواحد، وبكل بساطة: «لن يكون للدولة مشاركة في دورة التراخيص الأولى»!

الأخطر من ذلك هو أن الفراغ الذي يتركه إبعاد الدولة عن دورها الطبيعي في المساهمة الفعلية في استثمار ثرواتها، تملأه شركات وهمية أُسست لهذا الغرض ورُدّدت اسماؤها في اللائحة الرسمية لـ46 شركة أعلنت «هيئة البترول» في نيسان 2013 عن تأهيلها للحصول على حقوق استكشاف وإنتاج البترول والغاز في المناطق البحرية. من هذه الشركات، على سبيل المثال لا الحصر، «شركة» تدعى Apex Gas سُجلت في هونغ كونغ برأسمال 10,000 دولار هونغكونغي، أي ما يعادل 1,290 دولار اميركي فقط لا غير، وأخرى اسمها Petroleb سُجلت في بيروت من قبل إعلاميين «نافذين» ومستشارين سابقين في وزارة الطاقة و»هيئة البترول» ساهم أحدهما في صياغة القانون 133/2010! ولم يُعرف حتى الآن من هو المسؤول وكيف تم إقحام هذه الشركات الوهمية في لائحة رسمية جنبا الى جنب مع شركات عالمية، أعلنت «هيئة البترول» تأهيلها لحفر آبار وإنتاج البترول والغاز تحت مياه يتراوح عمقها حوالي الفي متر.

هذا كله يعني أن بعض موظفي وزارة الطاقة قد قرروا إغلاق باب المشاركة في استثمار البترول والغاز في وجه الدولة، عبر شركة نفط وطنية، ليفتحوه امام بعض الوسطاء والمغامرين المقنعين! مع الإشارة الى أن هذه الشطحات العجيبة وغيرها تتعارض والحس السليم، كما تتعارض مع احكام قانون 132/2010 والمرسوم 9882 (المادة 3) التي تنص بكل وضوح على أن الشركات التي تطلب التأهيل للقيام بأنشطة بترولية يجب ان تتمتع، وهذا تحصيل حاصل، بالمؤهلات الفنية والتجربة اللازمة، بما في ذلك شرط ألا تقل موجودات الشركة التي تقوم بدور المشغل (Operator) عن 10 مليارات دولار، وموجودات الشركة غير المشغلة عن 500 مليون دولار. وكلما طرح على الأعضاء المعنيين في هيئة البترول السؤال حول لغز الشركات الوهمية التي أعلنوا عن تأهيلها (كفاءاتها، قدرتها المالية، أسماء من يختبئ وراءها، الخ…) يأتي الجواب دائماً وأبداً ان هذه كلها معلومات «سرية»، وأن الشركات المعنية تطالب هي نفسها بالإلتزام (طبعا) بهذه السرية!

نحو نهب «شرعي» ومبرمج

لم يعد مهماً فك ألغاز الشركات الوهمية بعد كل ما كشف عنها في وسائل الإعلام. الأهم والأخطر من ذلك هو أن ما يجري في كواليس «سياسة» البترول والغاز في لبنان يشكل، بكل المعايير، قفزة نوعية في أساليب الفساد والابتزاز. ذلك أن الخطوات المتبعة تؤدي لا محالة، بعد تزوير قانون 132/2010 المشار اليه اعلاه، الى التحايل على أحكام أخرى من هذا القانون، التي تنص على أن اتفاقيات الاستكشاف والإنتاج تُبرم مع «شراكة تجارية غير مندمجة»، مؤلفة من ثلاثة اصحاب حقوق على الأقل، أي من «الشركات» التي قررت «هيئة البترول» رسميا تأهيلها. وهذا يعني أن كل من الإثنتي عشرة شركة عالمية مؤهلة للقيام بدور المشغل، يتوجب عليها «مشاركة» شركة من العيار الوسط أو الصغير أو… إحدى الشركات الوهمية المدعومة من قبل أصحاب الباع الطويل. وبهذه الطريقة غير المسبوقة في العالم، تحصل كل من الشركات المحظوظة ليس فقط على عمولات قد تبلغ عشرات الملايين من الدولارات، بل أيضاً وخاصة على حق ملكية «رسمي» على قسم من البترول والغاز المكتشف. وإذا افترضنا أن حصة مشاركة الشركة هذه 10 في المئة في اطار «الشراكة التجارية غير المندمجة»، وأن قيمة المخزون المكتشف في رقعة ما يتراوح حوالي 30 مليار دولار، تكون «جائزة» الشركة صاحبة الحظ نحو 3 مليار دولار. وإن كانت حصتها ضعفي أو ثلاثة أضعاف ذلك، تكون الجائزة مخزونات قيمتها ضعفي أو ثلاثة أضعاف المبلغ المذكور…

إلا أن الأمور لا تقف عند هذا الحد، لأن الشركة المحظوظة نفسها تبقى طوال مدة الاتفاق، أي 30 سنة، جنباً الى جنب مع المشغل (Operator)، شريكاً في كل الأنشطة النفطية، من استخراج البترول والغاز الى تسويقهما، مروراً بالتموينات وشتى مراحل النقل والتصنيع والتوزيع والخدمات، وما يرافق ذلك من أرباح وعمولات. كل هذا يعني بالمختصر المفيد أن ممثلي الشركات التي أنعم الله جل وتعالى و «هيئة البترول» عليها يصبحون متربعين سعداء، بشكل «قانوني»، في مجالس ادارة الشركات العاملة، مكان ممثلي الدولة، عبر شركة نفط وطنية تمثل الشعب اللبناني.

قناع السرية

على ضوء هذا النوع غير المسبوق من السطو والابتزاز، لم يعد مستغرباً أن يستنجد بعض المسؤولين في وزارة الطاقة و «هيئة البترول» بالسرية كلما طرح عليهم السؤال حول القواعد والمعايير التي اعتمدوها لتأهيل شركات وهمية، أو بعض الشركات الصغيرة التي لا تملك الخبرة والقدرات المالية اللازمة، أو التي تتداخل بعضها ببعض عبر رساميلها ومصالحها.

السرية أيضاً وأيضاً هو الجواب الذي يعطى على السؤال حول مصير مبلغ مقداره 34-50 مليون دولار يشكّل حصة لبنان من بيع نتائج المسوحات الزلزالية في المنطقة الإقتصادية الخالصة. وعندما طرحت مجلة Executive لأول مرة، في آذار 2014، هذا السؤال على وزير الطاقة آنذاك، أبدى هذا الأخير امتعاضه من الحديث عن «موضوع تافه» وهدد السائل بملاحقة قضائية. ولم تكن المجلة المذكورة أوفر حظا عندما طرح مندوبها السؤال نفسه على الوزير الحالي خلال مقابلة نشرت في تشرين الأول 2015، مع الفارق أن الجواب جاء هذه المرة مرفقاً بلفت الانتباه الى كون الموضوع «سرياً». وما كاد الصحافي يبدي دهشته من الجواب حتى تفضل الوزير بتفسير أوضح وأبسط إذ سأل حرفياً: «وهل يحق لي أن اسألك عن المبلغ المودع في حسابك المصرفي؟». بعد هذا الجواب، لم يعد ثمة مجال أمام المواطن اللبناني إلا لسؤال واحد: اذا كانت هذه هي البداية، فإلى أين نحن ذاهبون وأين ستكون النهاية؟».

أخيراً لا آخراً يبقى «الالتزام بالسرية» العنوان المعلن لشروط الاتفاقيات مع الشركات كما تنص على ذلك حرفيا المادة 35 من النموذج المقترح لهذه الاتفاقيات. وقد تم نشر هذه المادة وغيرها من الانحرافات والثغرات، ولأول مرة، في الكتاب «البترول والغاز في لبنان: نعمة أم نقمة؟» الذي صدر عن المكتبة الشرقية في العام 2015.

انحرافات وثغرات سلطت بعض وسائل الإعلام اللبنانية الضوء عليها، ومن حسن الحظ انها لفتت انتباه اللجنة الوزارية المكلفة بدراسة هذا الموضوع، والتي أعادت مرتين على الأقل مشروعي المرسومين العالقين الى «هيئة البترول» لتصحيح بعض النقاط. وكانت التعديلات التي أدخلتها الهيئة المذكورة تبعاً لذلك إيجابية الى حد ما، فالواقع انها كانت أقرب الى «الترقيع» منها الى اعادة نظر كاملة وشاملة في نظام الاستثمار الذي لا بد منه لتأمين حقوق وأماني اللبنانيين. وطالما أن هذا الشرط الجوهري لم يتحقق، فإن الإمعان في التصرفات المتبعة منذ سنوات لن تؤدي كما يدعي البعض، جهلاً أم عمداً، الى دفع عجلة الاقتصاد الوطني، بل الى خلق بؤر جديدة ومرعبة للرشى والفساد وزرع عبوات ناسفة، لا سمح الله، في صميم التجاذبات السياسية والطائفية وفي صميم المجتمع اللبناني.