IMLebanon

المسيحيّة السياسيّة ووهم استعادة الهيمنة

تصاعد خطاب المسيحية السياسية في الأشهر الأخيرة، مطالباً باستعادة صلاحيات رئيس الجمهورية، التي كانت له سابقاً، وانتخاب رئيس مسيحي قوي هو فقط ميشال عون، وإعادة الموقع المسيحي الى ما كان عليه سابقاً عشية الحرب الأهلية. تصدّر التيار الوطني الحر المطالبة، وعــــطفت البـــطريركية المارونية على كلام عون وتياره، وترافق ذلك مع تصريحات لقوى مسيحية، خصوصاً القوات اللبنانية، تصب في الإطار نفسه. ذلك كله اقترن بتهديد مسيحي، عوني وقواتي، بالنزول الى الشارع واستعادة الحقوق المسيحية بالقوة إذا لم تبادر سائر المكونات الشيعية والسنية الى تأمين الوسائل التي تعيد الى المسيحية السياسية حقوقها.

يستدعي كلام المسيحية السياسية قراءة في مضمونها وإمكان تحقيقها. الكلام الصريح باستعادة المسيحيين صلاحياتهم ومواقعهم هو دعوة الى العودة الى ما كان الأمر عليه قبل اتفاق الطائف. من يعود الى زمن ما قبل الحرب الأهلية، لا يستطيع إنكار أن البلد كان محكوماً بهيمنة مسيحية، مارونية أساساً. وهي هيمنة لم تكن بقوة السلاح، بل لها جذورها التاريخية عندما كان المسيحيون على درجة من التقدم العلمي والاقتصادي والسياسي الموروث، والذي كرّس هيمنتهم وقبول المسلمين بها. على امتداد عقود ما قبل الحرب الأهلية، شهد البلد تطورات سياسية واقتصادية وعلمية وثقافية، طاولت جميع مكونات المجتمع اللبناني، وقلّصت في شكل كبير الفوارق بين المسيحيين والمسلمين في جميع المجالات.

عشية الحرب، طرح المسلمون شعارات التوازن في مواقع السلطة وسائر المؤسسات، وبرز مطلب المشاركة لتحقيق التوازن. ترافق ذلك مع تراكم المعضلات الوطنية والاجتماعية والاقتصادية وانفجارها في الشارع، وصعود قوى سياسية واجتماعية ترفع شعار ضرورة الإصلاح السياسي والاقتصادي في البلد.

أغلقت الطبقة السياسية الباب أمام أي محاولة إصلاحية أو تعديل للتوازن بين الطوائف، ما راكم احتقاناً في البلد، كان واحداً من الأسباب الرئيسية لانفجار الحرب الأهلية عام 1975. وتصرفت المسيحية السياسية برفض الاعتراف بقوى مثلتها آنذاك الحركة الوطنية التي تقاطعت مطالبها الإصلاحية مع مطلب المشاركة الذي رفعه المسلمون، ورفض هذه المسيحية أيضاً برنامج الإصلاح السياسي الذي طرحته هذه الحركة. انتهت الحرب الأهلية باتفاق الطائف الذي كان في حقيقته تكريساً لغلبة توازن طائفي جديد لمصلحة المسلمين هذه المرة، وللطائفة السنية في شكل خاص.

لا أحد إلا ويتذكر اليوم، أن اتفاق الطائف سبقه صراع مسيحي – مسيحي كان لميشال عون دور أساسي في اندلاعه، إضافة الى مغامرة إعلان حرب التحرير على الجيش السوري، لأن الرئيس حافظ الأسد رفض يومها أن يعطيه رئاسة الجمهورية، على رغم انبطاح عون أمامه وإعلانه أنه يفتخر بأن يكون جندياً في جيش حافظ الأسد. هذا الصراع المسيحي و»حرب التحرير» ساهما في المزيد من إضعاف المسيحيين، تُرجم، مرحلة الهيمنة السورية، بتهميش للمسيحيين واقتطاع من مواقعهم في السلطة والإدارة.

تهدف استعادة هذه الوقائع الى القول إن مرور ثلاثة عقود ونصف العقد على اتفاق الطائف شهد البلد فيها تحولات ديموغرافية واقتصادية وعلمية، لم يعد يسمح بالقول بالتميز المسيحي. ما تريده المسيحية السياسية من استعادة لمواقعها، خصوصاً في رئاسة الجمهوريةً يصطدم بالتحولات التي شهدها لبنان على امتداد العقود السابقة. فإذا كان تعديل التوازن لمصلحة المسلمين اقتضى نشوب حرب أهلية بسبب امتناع الطبقة المسيطرة عن فتح مجال الإصلاح، فإن العودة الى ما يطالب به عون والقوات اللبنانية هي افتتاح متجدد للحرب الأهلية. وإذا كان الأمر، حتى الآن، محصوراً بالحرب الأهلية سياسياً، إلا أن مسار التصعيد العوني قد يؤدي الى تغيير هذا المسار.

يتوهم عون وتياره أن الطوائف الأخرى التي ترسخت مواقعها في السلطة، يمكنها أن تتنازل عن أي منها. ويتذكر عون أن مديرية الأمن العام كانت موقعاً متميزاً للمسيحيين، وقد سعى الى استعادتها، فلم يستطع. وتتوهم المسيحية السياسية أن عقدها مع الشيعية السياسية سيعيد إليها الصلاحيات، فهذه الشيعية، تمارس هيمنة فعلية في البلد، ومستندة الى سلاحها تحت اسم المقاومة.، وترمي اليوم الى احتكار السلطة في شكل شرعي، وقد تستخدم عون شماعة للوصول، وجعله رئيساً شكلياً. أما التهديدات بالعصيان وتعيين مواعيد بالنزول الى الشارع أو اقتحام قصر بعبدا، فإنها ستفتح باب البلد على فوضى سياسية وأمنية لن تكون لمصلحة المسيحيين، كما لن تكون أصلاً لمصلحة البلد.

الخلل القائم في التوازنات التي نشأت بعد الطائف لا يصب في مصلحة التسويات السياسية التي يحتاجها البلد، وتعديل هذه التوازنات أمر ضروري، لكن الأساليب التي تهدد بها المسيحية السياسة والمؤسسة الكنسية، لا توصل الى هذا التعديل، بل تفتح البلد على جهنم، وقد تفقد المسيحيين مواقع أكثر، وتطيح ما تبقى من مكونات الجمهورية اللبنانية، المتصدّعة أصلاً.