IMLebanon

طوابير المهرولين إلى طهران: هذا هو الموجز وهاكم التفاصيل!

قبل ساعات قليلة من الإعلان عن التفاهم الخاص بالاتفاق النووي الإيراني، اتصلت المستشارة أنغيلا مركل بمستشارها الاقتصادي، وزير الاقتصاد، وأبلغته أن الاتفاق تمّ إنجازه. وبعد ساعات قليلة، كان الوزير الألماني يهبط في مطار طهران يرافقه مئة من رجال الأعمال الألمان في مختلف المجالات، وكانت ألمانيا أول المتهافتين على خطب ود إيران وإقامة علاقات عمل، بعد القطيعة الغربية المعلومة لطهران.

وكرّت السبحة. وزير خارجية فرنسا لوران فابيوس، سارع إلى الإعلان عن سفره إلى إيران، وحرص على القول إنه يلبّي دعوة وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف (قبيل الإعلان عن الاتفاق)، علماً أن وزير خارجية فرنسا كان في طليعة الوزراء الذين شاركوا في الأيام الأخيرة من مداولات فيينا، ووجّه التهم القاسية الى إيران وسياساتها، وأدّى موقفه هذا إلى تأخير الإعلان عن الاتفاق بالصيغة النهائية.

وفي وقت متزامن، كان رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون، يبلغ مجلس العموم عن الرغبة في استئناف العلاقات مع إيران، وأنه سيعاد فتح القنصلية البريطانية في طهران قبل نهاية العام الحالي.

وهكذا، تكثّفت طوابير المهرولين من شتّى أصقاع الأرض، سعياً وراء قطف ثمار التوصّل إلى الاتفاق على الملف النووي، مؤكدين المقولة الشهيرة: «ليست هناك صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، بل مصالح دائمة».

لقد كانت أخبار المفاوضات الماراتونية بين الدول الخمس الكبرى زائد ألمانيا وإيران، تملأ الدنيا وتشغل الناس. والآن، وقد أعلن عن التوصّل إلى «الصفقة النووية»، ماذا يمكن أن يقال؟

كُتِب الكثير عن الموضوع، وسيُكتب أكثر سواء لناحية التداعيات التي سيفضي إليها «التاريخ الجديد في المنطقة»، أو لجهة ممارسة كل طرف ابتزاز الطرف الآخر:

أولاً: الكل تنازل والكل أخذ. أما مسألة الربح والخسارة فقضية نسبية تتوقف على قراءة الاتفاق وتفسيره. فإيران كانت في جانب والعالم كلّه في جانب آخر، ثم إنّ الفترة الطويلة التي اقتضتها عمليّة التفاوض أكّدت مجدداً طول الصبر والأناة لدى المفاوض الإيراني، وأن صموده هذا الوقت كله منحه ميزة للتفوّق على سائر مفاوضي الدول الخمس الكبرى وألمانيا.

ثانياً: وقبل التوغّل أكثر في مضمون الاتفاق، علينا أن نلاحظ الحرب النفسيّة التي تخاض من جانب الأطراف على اختلافها. فالمرشد الأعلى السيد علي خامنئي، حافظ على استعمال المفردات نفسها التي كانت متداولة قبل الاتفاق، ومن ذلك تركيز الهجوم على «أميركا المستكبرة». وأضاف محتفظاً لإيران بموقع القوّة، وتوقّع أن تهاجمها الولايات المتحدة ذات يوم وأن تُمنى بالفشل. وعندما نُقل مضمون هذا الكلام إلى وزير الخارجيّة الأميركي جون كيري، عبّر عن عدم الارتياح وقال: «هذا كلام مزعج».

ثالثاً: في المقابل، فور الإعلان عن التوصّل إلى التفاهم، نشبت المعارك السياسية في دوائر واشنطن، وتعهّد الحزب الجمهوري الذي يملك الأكثرية في مجلسي الشيوخ والنواب، العمل على رفض الاتفاق «بكل الوسائل المتاحة». علماً أن الكونغرس إذا ما صوّت بأكثرية أعضائه على رفض الاتفاق، فباستطاعة الرئيس باراك أوباما أن يمارس حق الفيتو ضد قراره.

وفي كل حال، أمام الكونغرس فترة تمتد نحو 60 يوماً للتصويت، وردّ مجلس الشورى في إيران بتمديد التوقيت نفسه، ربّما في تنافس غير معلن، وعليه فسينتظر رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني، تصويت الكونغرس كي يطرح الموضوع على التصويت.

رابعاً: لكل طرف مرافعته عن الاتفاق، وكل طرف يعتبر نفسه منتصراً في المعركة التفاوضية الطويلة. ففي سياق مطالعة أوباما، نقرأ ما يلي: «الاتفاق النووي أفضل وسيلة لتجنّب سباق تسلّح ومزيد من الحروب في الشـــرق الأوسط»، ويضيف: «من دون الاتفاق، لن تكون هناك قيود على برنامج إيران النووي، وسيكون بمقدور إيران الاقتراب من صنع قنبــــلة نووية، ومن دون اتفاق نخاطر بمزيد من الحروب في الشرق الأوسط. وإذا لم تنتهز أميركا الفرصة لإبرام اتفاق، فستحكم علينا الأجيال المقبلة بقسوة…».

ويمضي أوباما في دفاعه عن الاتفاق حيال الرأي العام الأميركي: «أنا لا أضمن أن تكون إيران دولة معتدلة، ولا أضمن أن توقف تدخلاتها في سورية أو دعمها لـ «حزب الله». وأضاف: «الولايات المتحدة لا تعمد إلى تطبيع العلاقات مع إيران كما فعلنا مع كوبا»، لماذا؟ يجيب: «الخلافات مع إيران ما زالت عميقة».

وهنا، لا بد من التركيز على عبارة رئيسيّة في معرض الكلام عما يتّصل بعلاقات الولايات المتحدة وإيران، ألا وهي «أزمة انعدام الثقة» في شكلٍ نهائي، وهذا ما حكم التعامل مع إيران منذ قيام الثورة الإسلامية في 1979، وسيبقى متواصلاً حتى مع التوصّل إلى الاتفاق النووي. لذلك، عندما تطرح مسألة الضمانات: مَن يضمن مَن؟ تقفز إلى الأذهان رواسب أربعة عقود من أزمة الثقة المفقودة بين الجانبين. فلا بد من التركيز على أن ما تمّ التوصل إليه، هو «اتفاق الضرورة» بالنسبة الى مختلف الأطراف.

وإذا ما نصّ الاتفاق على «تجميد» الطاقة النووية الإيرانية وعدم استعمالها إلاّ للأغراض السلمية»، فإن إيران حصلت على العديد من المكاسب، لعلّ في طليعتها رفع العقوبات المفروضة عليها منذ سنوات طويلة، والتي تركت ولا شك آثاراً سلبيّة في الداخل. ويضاف أن إيران ستسترد أموالها المجمّدة منذ سنوات، ونحن هنا نتحدّث عن بلايين الدولارات (وهناك كلام عن مبلغ يزيد عن 180 بليوناً) هي قيمة الأموال مع فوائدها منذ تجميدها، وهذا يعني أن إيران ستنعم بواقع جديد سينعكس على حياة أفراد شعبها كافة.

وفي سياق متّصل، ترى الدول الغربيّة «إيران الجديدة» جنّة من المشاريع والاستثمارات المشتركة، ومن هذا المنطلق تحدّثنا عن بداية تكوّن طوابير المهرولين إلى طهران منذ الساعات الأولى للإعلان عن الاتفاق.

خامساً: يُطرح تساؤل: مَن الذي تغيّر، إيران أم الولايات المتحدة؟ إن حالة التغيير فرضت نفسها على مختلف الأطراف التي شملتها عملية التفاوض. لكن في نهاية الأمر، لم يبلغ التغيير حدّ أن تصبح إيران أميركا وأميركا إيران.

وفي تركيز واشنطن وإدارة أوباما على «الإنجاز النووي الكبير»، بمنع إيران من استخدام طاقتها النووية لأهداف عسكرية، وجد السيد خامنئي الفتوى الملائمة لهذا التدبير، ففي خطابه الأخير أشار إلى «أن إيران لا تريد استخدام أسلحتها النووية، والمضي في سياسة تخصيب اليورانيوم ولو بنسبة متدنيّة كما قضى الاتفاق، لأن الإسلام يمنع إيران من استخدام القدرات النووية للأغراض العسكريّة أو غير السلميّة».

وفي ما يتعلّق بمواقف أوباما من الموضوع النووي الإيراني، يقول مصدر متابع عن قرب لتفكير الرئيس، إنه يركّز على الفترة المتبقية له في البيت الأبيض ليبذل ما استطاع لنشر السلام في أي مكان من العالم. ويُذكر أن أوباما مُنِح جائزة نوبل للسلام، وعندها قامت ضجّة إعلاميّة عالميّة طُرح فيها الوضع على الشكل التالي:

في العادة، تُمنح الجائزة لشخصيّة عالميّة عملت فعلاً من أجل السلام والابتعاد من الحروب… فكان الجواب: لعلّ منح الجائزة لأوباما ولو في صورة استباقيّة، حافز له على دفع مسيرات السلام، ولعلّ هذا الطرح يُجيب عن تركيزه على عدم إرسال أي جندي أميركي إلى أي منطقة نزاع في العالم. إلا أن تطوّرات العراق أرغمته على إعادة إرسال ستمئة «تقني أميركي» لتدريب بعض العناصر العراقية على مواجهة «داعش» وأخواته.

ونصل في النهاية إلى الجزء الأهم من «تردُّدات» الاتفاق النووي، وهو ما يتّصل بالوضع الإقليمي البركاني المتفجّر، والفوائد التي تجنيها بعض مواقع التوتّر الملتهبة في المنطقة. فقد عُلّق الكثير من الآمال والأحلام على شمّاعة «الاتفاق النووي»، وحتى لا نخدع أنفسنا علينا مصارحة أنفسنا قبل أي طرف آخر.

فلبنان وُعد بهبوط الوحي على نوّابه لانتخاب رئيس جديد للجمهوريّة بُعَيْدَ التفاهم على «النووي»، وهذه أحلام كاذبة. فالوضع في لبنان ليس في مرحلة متقدّمة من سلّم الأولويات لدى صنّاع القرار من الفاعلين والمؤثرين. وتهمس بعض الأوساط المتابعة أميركيّاً للأوضاع الإقليمية، أن ترتيب أهميّة الأولويات هو الآتي: حرب اليمن، ثم العراق، ثم سورية، وبعدها لبنان ربّما.

لذلك، لا فائدة تُرتجى من البقاء في حال انتظار «الشخص» الذي يمكن أن يأتي من كوكب آخر!

وفي كل حال، إذا كانت ستطرأ على الوضع في لبنان متغيّرات إيجابية، فهذا لن يكون إلاّ بعد تفاهمات جدّية وجديدة على قواعد صلبة، بين القوى الإقليمية الفاعلة. وبوضوح أكبر، إن التغيير في نهج الأزمة ومسارها تملك مفاتيحه قوّتان إقليميتان: المملكة العربيّة السعودية وإيران.

لقد بدأنا بـ «التفاهم النووي»، ويجب أن نختم به بالآتي: الآن وفي ضوء كل ما جرى، فإن البداية لحلحلة بعض مكامن الأزمات الطاحنة هي التوقف عن خداع الذات، واعتماد الأسلوب العقلاني في النظر إلى مسار الأحداث. وكل ما جرى حتى الآن على صعيد الاتفاق النووي، ليس إلاّ الموجز. أما التفاصيل فتأتي لاحقاً، حيث يتّضح مدى قوّة كل طرف من «الأطراف النووية»، في ترجمة الاتفاق عندما يأتي الأمر إلى إعادة تموضع مراكز النفوذ الإقليميّة والدوليّة في المنطقة.

… وعندها فقط يمكن الحديث الذي تم تناوله مطولاً، وهو: «الشرق الأوسط الجديد»، لكن ليس ذلك الشرق الذي أعلنت عنه الآنسة كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، مع انطلاق الشرارات الأولى لعدوان إسرائيل على لبنان في تموز (يوليو) 2006. وكل اتفاق نووي والعرب موجودون على الخريطة قبل أن يسحقهم المزيد من الضغوط إلى حدّ الاختناق.

في كل حال، للاتفاق النووي الكثير من الأحاديث والمضاعفات والتداعيات التي ستؤرّخ أحداث المنطقة: ما قبل الاتفاق وما بعده.