IMLebanon

سمير جعجع و«سيّدة النجاة»

ظهر يوم 26 كانون الثاني 1994 اتّخذ القرار النّهائي بالتخلّص من قائد القوات اللبنانية سمير جعجع، وها هو يقف وجهاً لوجه مع الرّجل الذي أطاح له بحلمه في ابتلاء لبنان عبر الاتفاق الثلاثي على لبنان في 26 كانون الثاني 1986، هي «مفارقة» الزمن، بعد سنوات ثمانٍ وقف سمير جعجع في 26 كانون الثاني مصافحاً الرئيس حافظ الأسد ليقدّم له واجب العزاء الاجتماعي فقط، لا كلمة واحدة في السياسة، من يستطيع تخيّل مشاعر «26 كانون الثاني»، في تلك اللحظة اتّخذ قرار الانتقام من «الحكيم»، فوقع على عجلٍ في 27 شباط 1994 التفجير الرهيب في قلب كنيسة سيدة النجاة في لحظة صلاة المؤمنين، كانت الجريمة أكبر من أن يتحمّلها لبنان، ومع ذلك كان نظام الوصاية السوري ـ اللبناني قد تلقّى أوامره بوضع نهاية مأساوية لدور سمير جعجع في المشهد اللبناني وتحويله إلى قاتل المسيحيين وهم يصلّون في الكنيسة، أُريدَ إلباسه ثوبٌ يكرهه فيه المسيحيّون فيفقد أي تعاطف معه، وأن يشمت به المسلمون، وأن يتعرّض لإذلالٍ شديد، فهؤلاء لا يعرفون صلابة الرّجل ولا طاقاته الفكريّة وقدراته الروحية والصوفيّة…

خلال الاحتفال الذي أقامه حزب القوات اللبنانيّة في الذكرى الثانية والعشرين على تفجير كنيسة سيدة النّجاة، توجّه الدكتور سمير جعجع إلى الشباب بالقول: «بطلب منكن شباب وصبايا القوات، انو ضروري ضروري تتعرفوا فاصلة وفاصلة على كل تاريخ القوات اللبنانية»، وهنا، أتمنّى شخصيّاً لو كنتُ من المنظّرين لتاريخ القوات اللبنانيّة، نقطة نقطة، وفاصلة فاصلة، على الأقلّ من زاوية رؤية الآخر، فما تختزنه ذاكرتي كمُتابِع ومُوَثِّق للكثير من الحروب والأحداث التي عاشها جيلي خلال الحرب الأهلية إذ كنتُ في العاشرة من عمري، ومرّ حتى الآن أربعة عقود من الزمن، وقد تسنى لجيلي طوال هذه السنين أن يعرف حقيقة كلّ التنظيمات والأحزاب والميليشيات ودكاكين الحرب..

ثمة حقيقة يجب أن تقال.. جيلي سمع باسم سمير جعجع وقت حصار دير القمر خلال حرب الجبل سمع لم يكن يعرفه بأكثر من صورة في جريدة ملتحٍ بفعل القتال، وصورة ثانية تجمعه بالرئيس بشير الجميّل أيام كان قائداً للقوات اللبنانيّة وهو فيها أيضاً ملتحٍ وقد كتب على الصورة «إحمل صليبك واتبعني»… جيلي «لحّق» واكتشف منذ لحظة ا?نقلاب على ا?تفاق الثلاثي في 26 كانون الثاني من العام 1986 كيف حمى سمير جعجع لبنان ومنع تسليمه لنظام الأسد.. وجيلي من أبناء المنطقة الغربية وفي أيام سمير جعجع استطاع أن يتوجّه يوميّاً إلى المنطقة الشرقية من دون أن يطارده خوف الخطف.. جيلي لم يُتح له أن يعرف لبنان اكتشفنا عظمة بلاد الأرز وجبالنا «الما بتنطال» تنشقنا حريّة «المنطقة المحررة» فكنّا نأتي من «الغربية» لنسير على أرض لبنانية لا يوقفني فيها حاجز لجنود الاحتلال السوري..

عندما رفض سمير جعجع الوزارات، رفضها لأنّ الحكومات أرادت وفاقاً صورياً يبصم فيه الوزراء على ما يريده «عبدالحليم خدام» في لبنان، عندما توصّل النواب اللبنانيّون في 23 تشرين الأول 1989 إلى وضع اتفاق الطائف، وانتخبوا في 7 تشرين الثاني الرئيس رينيه معوض رئيساً للبلاد ليغتال لاحقاً في 22 تشرين الثاني 1989 لأنه أراد تطبيق اتفاق الطائف، اليوم لا بُدّ أن نقول: ما أشبه اليوم بالأمس، ففي 16 كانون الثاني 1989 تحدّث سمير جعجع لمناسبة الذكرى الثالثة للإطاحة بالاتفاق الثلاثي فقال: «ليست هي المرّة الأولى في تاريخنا تكون دمشق مقبرة المبادرات اللبنانيّة (…) سوريا لا تريد الانتخابات في لبنان»، هو مشهدٌ يتكرّر اليوم والمعطّل واحد فحزب الله، حليف النظام السوري في دمشق وحليف نظام الملالي في طهران لا يُريد الانتخابات في لبنان!!

من يُريد أن يعرف لِمَ فشل النظام السوري في تطويع سمير جعجع عليه أن يفهم إصراره على تطبيق اتفاق الطائف بحذافيره، ويُريد أن يفهم مشهد ليل السبت ـ الأحد الذي كاد يُشعل بيروت، عليه أن يقرأ حديثاً لبرنامج إذاعي نشرته النهار في 14 تشرين الأول 1991 وقال «الحكيم»: «وصلنا إلى الجنون، فإذا الأمر على عينك يا تاجر، وليس هناك حلّ ميليشيات، لماذا؟ لأنّ الميليشيات هنا تعني مقاومة. فلماذا هناك دولة في الأشرفيّة ومقاومة في الجنوب، وإذا كان ضروريّاً وجود المقاومة في الجنوب، فلماذا لا تقوم بها الدّولة؟ عندنا في الجيش مغاوير ومكافحة ووحدات أخرى جيّدة، نأخذها ونعطيها أمر بعشر عمليّات ضدّ الإسرائيليين وهذا منطق أفهمه تماماً، ولا يمكن أحد الهروب منه. فهل يمكن أن تكون هناك دولة في كسروان وجبيل ولا أعرف ماذا في الشوف وعاليه ومقاومة في صيدا وصور؟ أيّ منطق هو هذا المنطق؟ تسأل ولا تجد من يجيب»… هذا الكلام الذي قيل في العام 1991 وقد وصلنا إليه ووقعنا في صدام الدولة والدويلة، وتحوّل سلاح حزب الله سيفاً مصلتاً على رقبة لبنان وشعبه، وعلى رقبة العالم العربي بفعل الأجندة الإيرانيّة للمنطقة!!

حتى واقع الصراع اليوم على هوية لبنان العربيّة، التي يحاول حزب الله ومعه إيران طمسها، وأزمة «الآتي أعظم» مع دول الخليج العربي، تجدها حاضرة في فكر سمير جعجع الذي قال في حديث نشرته النهار في 15 شباط 1991 مجيباً على سؤال حول العروبة والإسلام أجاب جعجع: «أنا أفهم العروبة على أنّها ذلك الشعور الذي يربط المواطنين العرب في شتّى أقطارهم العربيّة، الشعور والهويّة والوحدة، والانتماء والقوميّة، والكيان هذا الشعور لم يكن في العصر الجاهلي، وانوجد كحال مع مجيء الإسلام، وتجسّد مع انتشار الإسلام، وليس في مقدور أحد أن يتصوّر مجرى التاريخ لو لم ينزل الإسلام، كلام آخر، لقد شكّل الإسلام الأداة العمليّة، والعامل الرئيسي لتجسيد العروبة، قبل الإسلام انوجدت بؤرة عربيّة في الجزيرة العربيّة من دون إحساس بشيء اسمه العروبة»، وعن مفهوم «القوميّة» ومفهوم «الأمة» وهل هناك قوميّة عربيّة أو مجموعات قوميّة عدّة إثنيّة تتكلّم اللغة العربية، أجاب «الحكيم»: ليس عندي أي شكّ في وجود القوميّة العربيّة، ونظرة إلى عمق خمسمائة سنة آتية، أرى أنّه سيأتي يوم تتجسّد فيه القوميّة العربيّة بأمّة عربيّة».

هذا الكلام سبق الأزمة التي تعيشها علاقات لبنان مع محيطه العربي، منذ زمن بعيد لم يحظَ لبنان بمفكّر وفيلسوف على مستويات عدة الفكر السياسي وفي التاريخ، سياسي يجمع في شخصه صلابة القائد العسكري وإصلاح صاحب الفكر السياسي، هو الذي خرج من سجن الوصاية «جوهراً مصقولاً»، هي محنة كبرى لرجل تعرّض لمؤامرة كبرى من نظاميْ وصاية أمنيّ خسيس، وخرج ولبنان معه من السجن منتصراً عليه…

ولا أستطيع أن أنسى في هذه اللحظة السيدة ستريدا جعجع التي اختارها سمير جعجع لتحمل من بعده صليب القوات اللبنانية فحوصرت وطوردت وواجهت وصمدت وناضلت، فصارت أسطورة بين نساء القرن في نضالها البطوليّ.

نعم، أنا أيضاً أطلب من صبايا وشباب القوات اللبنانية أنّه «ضروري ضروري تتعرفوا فاصلة وفاصلة على كل تاريخ القوات اللبنانية»، ونقطة نقطة أيضاً.