IMLebanon

ربيع «السويداء» العربية

(عيون الطغاة أقسى من عِظام الجريمة)

بعد كمال جنبلاط وقافلة من الشهداء اللبنانيين وصولاً إلى «شيخ الكرامة» وحيد البلعوس، مرورواً برفيق الحريري واستمراراً بالشعب العربي السوري، يحافظ النظام المذهبي في سوريا على «مهنته» و»سر وجوده» وأسلوب حُكمه، ومتعة حياته عقليةَ القتل. صعد بالانقلاب الدموي (وسمي ذلك حركة تصحيحية) وها هو يتساقط بالقتل. لم يرافق نظام في العالم الحديث أو جماعة، أو قبيلة، القتل كما رافق هذا النظام. حواره القتل. وعداوته القتل. والاختلاف مع الآخر القتل. والتهمة جاهزة عنده لتبرئة نفسه. قد تتغير اسماؤها لكنها جزء من ارتكاباته.

تابعنا ما بعد اغتيال المعارض الدرزي الكبير ورفاقه بسيارة مفخخة، الاعلامَ «الممانع» (وهو كالنظام يرد التهمة عنه إلى سواه الاسطوانة المشروخة ذاتها. وجوقة الاتهامات الحليفة له، تعزف النغمة ذاتها).

«حزب الله« شريك الأسد في تدمير سوريا وتهجير شعبها، (4 ملايين حتى الآن) وقتل نحو 300 ألف منهم 25 ألف طفل، ها هو هذا الحزب محترف الاجرام، والعمالة لإيران، يشن هجوماً على النائب وليد جنبلاط وعلى غرار حليفه يتهم «أبو عدس» سوريا «أبو ترابة» والمخابرات الاردنية ، مبرئاً النظام. لكن حزب سليماني فبرك سيناريو بوليسياً رائعاً. عن وقائع ما سبق الاغتيال، ليعدد الاتهامات ويوزع «خيوط» الجريمة من الاردن إلى «أصدقاء سوريا» رائع! بل كأنه في هذا السيناريو الميلودرامي، يحمّل جنبلاط المسؤولية. صحيح انه اختار «ابو ترابة» والنصرة لكن يوسع اطار «الرؤيا» وهو حزب «الرؤى» واللوناتيكية» والمخيلات الدموية.

لكن لم يقتصر الأمر على أبو ترابة، فقد تنوعت كالعادة هويات القتلة بحسب الحزب والنظام إلى الموساد. اتهموا قبل اسابيع الشيخ بلعوس بالعمالة لإسرائيل، ثم اتهموا اسرائيل بقتله. (الموال ذاته والزجّالون ذاتهم). ثم اتهموا جنبلاط نفسه والمعارضة السورية، ثم توسعت دائرة البيكار إلى «أصدقاء سوريا» والحُجة ان كل هؤلاء اغتالوا دفعة واحدة «شيخ الكرامة» لإثارة الفتنة في السويداء. «حزب الله»، حزب الفتنة يتهم الآخرين بها. كأن وجوده في سوريا خنوعاً لاربابه الفرس ليس الفتنة المذهبية بعينها. ولم تسلم قطر من لائحة الاتهامات وربما تضم غداً السعودية والكويت والبحرين اليها…. أي كل العالم قتلوا الشيخ بلعوس ما عدا القاتل الحقيقي كل العالم متهم ما عدا بشار الأسد وارث هذه المهنة بالجينات والخلايا السلالية… والثقافة والتعاقب. إذاً أبو عدس تحول «أبوات عدس». وذلك للتضليل. وإذا عدنا إلى الوراء نجد السيناريو ذاته بعد اغتيال الشهيد الرئيس الحريري: من اتهام أبو عدس إلى الحجاج الاستراليين، إلى اسرائيل، إلى 14 آذار نفسها، وإلى خلافات مالية مع مافيات وراء الاغتيال. بل أن بعض المأجورين من النظام السوري والملالي الإيراني اتهموا جنبلاط نفسه وسبق لجريدة «تشرين» اتهام سعد الحريري بقتل والده ليرثه… أي كل العالم اغتيال الحريري ما عدا «حزب الله» والنظام السوري وصولاً إلى رأي الجمهورية الاسلامية.

[ تبدّل وجهة الاتهام

صحيح أن المعزوفة تبدّلت تفاصيلها بتحول الاتهام من اسرائيل إلى المتطرفين (النصرة) الاسلاميين. لكن بقيت بورصة الأسماء عديدة. والغريب العادي أن «حزب الله» لم يشر إلى ان عماد مغنية قُتل في قلب دمشق، وقرب بعض الدوائر الأمنية السورية، وفي عز طغيان آل الأسد، لم يُشر موضحاً إلى ذلك ولم يلمح حتى إلى «تقصير» النظام السوري بحماية مغنية، أو حتى بالتواطؤ، أو بالمسؤولية. لا! شيء من كل هذا. بل الأغرب ان التحقيقات في عملية القتل قد «لفلفت» وانقطعت أخبارها وكأن لم تكن مقتلة تحت مظلة النظام وفي رعاية مخابراته. ذلك ان «ضرب الحبيب زبيب» وعسل وماورد وياسمين! أسدل ستار حديد من الصمت….

[ زنادقة الإعلام السوري

ولدى متابعتي تلفزيون النظام السوري، وصل بعض مرتزقة الأسد إلى اعتبار البلعوس «شهيداً» باعتبار انه لم يكن معارضاً للنظام بل مساند له. وأحال التوتر والتظاهرات التي عمت محافظة السويداء على «العملاء» ومثيري الفتنة ومنهم وليد جنبلاط. أو ليس هذا ما شهدنا فصوله بعد اغتيال الحريري، عندما راح «القتلة» يتبارون في مدى صداقتهم وحبهم واكبارهم للرئيس الشهيد؟ حتى عندما قتلوا كمال جنبلاط ارتكب النظام السوري مجزرة بحق المسيحيين في الجبل ليحول الأنظار عنه ويوجه الأصابع إلى هؤلاء وسقط 80 ضحية منهم يومئذ. أكثر: نصبت قوات الاحتلال السوري في بعض المناطق ومنها بيروت، حواجز طيارة تمّ خطف بعض المواطنين على الهوية: المسيحيون والموارنة تحديداَ كأنهم هم قتلوا الزعيم الدرزي الكبير.

ان هؤلاء الذين لم يتقبلوا معارضة كمال جنبلاط لهم، فعلوا الأمر نفسه مع الشيخ بلعوس. هذا الزعيم، سليل الروح الاستقلالية والوحدة والنضال عند سلطان باشا الأطرش، عندما نأى بالدروز عن حرب بشار الأسد ضد أخوانهم السوريين.

[ ظاهرة بلعوس

وقد شكل «شيخ الحكمة» البلعوس وسط كل هذه المآسي السورية ظاهرة فريدة: صمود الدروز في جبلهم الأشم وقطع الطريق على نظام الأسد في تجيير ابنائهم لمصالحه واستخدامه وقوداً وورقة في حربه على الثورة. ان تقدم البلعوس بشخصية القائد والرمز ذي التأثير الكبير في محافظة السويداء وأبعد منها، وتمرده مراراً على أوامر بشار الأسد، جعل هذا الأخير يرى فيه خطراً عليه، من شأنه أن يؤدي إلى خروج السويداء من سلطته وجبروته. والتعبير الأهم دعوات البلعوس إلى الشباب الدرزي بعدم الانضمام إلى جيش البربرية البعثية وقال لهم «لم تعد السويداء ترضخ للتجنيد الاجباري وممنوع ضمن أراضي الجبل ان يساق كل شاب إلى الخدمة الإلزامية. لا إلزام ولا من يلزمون! بل ذهب بلعوس إلى أبعد من ذلك عندما اتهم النظام بالغدر، والخيانة تجاه الدروز في كثير من المعارك، وذلك عبر دفع المقاتلين الدروز إلى الصفوف الأمامية من دون حماية وفي كثير من الأحيان اطلاق قواته النار عليهم من الخلف كما حدث في معركة داما. انه الغدر والخيانة. ألم يُسلم الجولان إلى اسرائيل كله، مقابل «بقاء النظام» الم يحم هذا النظام الجيش الاسرائيلي ليتحول الجولان نموذجاً للهدوء والتهويد والمستوطنات؟

«جبل الكرامة» اليوم في عز استقلاله. طرد المخابرات والشبيحة واعلن المحافظة منطقة محررة من شرور إيران والبعث والعائلة المحكومة. لكن بعض الذين يعملون على ضرب الوحدة في لبنان، أهل الكانتون المذهبي، اتهموا الدروز بالتقسيم. لأن مفهومهم للوحدة الوطنية قائم على «تماسك» استبدادهم. هكذا كانوا يقولون للبنانيين: إما نحن أم الحرب الأهلية. إما «أمننا» القسري، القامع، النهّاب، وإما الفتنة. إما نحن وإما العدم، وانهيار لبنان. ووجود الاحتلال البعثي في لبنان، ادى إلى «تقسيمه» كانتونات غير معلنة، موحدة بالتهديد والعنف والخطف والقتل. وكان إميل لحود (مع سواه) أداة هؤلاء لتعزيز نفوذهم، وضرب الدولة، والجيش، والمؤسسات. وها هم يريدون من جبل الكرامة أن يخضع لإجرامهم صاغراً: فإما العمالة، وإما السيارات المفخخة، والمذابح الجماعية. كسر أهل الجبل الأشم كل عقدة «خوف» وانطلقوا في إدارة شؤونهم، لأن بقاء الأسد وشبيحته ومخابراته في أراضيهم، ليس سوى احتلال شبيه باحتلالهم لبنان، وشبيه، اليوم، باحتلال إيران سوريا، واعتبار جنرال الخراب الفارسي سليماني هو الرئيس والقائد الفعلي «لقلب العروبة النابض». والغريب أن النظام الذي لم يعد نظاماً، والرئيس الذي لم يعد رئيساً إلاّ في جحره الرئاسي، والجيش السوري الذي بات تابعاً لميليشيات إيران، لم يبق عنده شيء: لا سيادة، ولا استقلال، ولا بلد، ولا ناس، ولا اقتصاد، ولا سلطة ما عدا «إرادة» القتل. فلو كان يستطيع أن يقتل العالم كله، ويبقى وحيداً لفعل. ولو كان يستطيع أن يخنق الأطفال في مهودهم، ويقصفهم في بيوتهم، ويمحوهم (كما فعل هيرودوس)، لما قصّر. سوريا إما تكون له أو لا تكون. وهكذا لبنان… حتى في قمة هزائمه ها هو يقتل الأبرياء والعُزّل. حتى في أسافل يأسه لا يحلم إلاّ بالدم، لأنه بات السبيل الوحيد لتأكيد وجوده المنهار. «عليّ وعلى أعدائي»، وأعداؤه هم الشعب السوري. هجِّروهم، طاردوهم، فرقّوهم، بدّدوهم، ملايين ملايين، لكي لا يبقى أحد في سوريا. دمروا كل شيء، المدارس، المستشفيات، المنازل، المصانع، المدن، القرى، حتى لا يبقى حجر على حجر. لكن كل هذا لم يعد نافعاً. فارتكاب مجزرة هنا، واغتيال «معارض» هناك، وقصف بالكيميائي أو الكلور هنالك، باتت «لزوم ما يلزم». وربح معركة ارهابية ما، لا يعني التعويض عن خسارة الحرب.

[ شيزوفرانيا

فالنظام اليوم في حالة من الشيزوفرانيا والشذوذ النفسي، والميغالومانيا الوهمية، أي في مناخ عدمي خالص: لا أفكار. ولا تصورات. ولا حلول. لا سلطة. لا أمل. لا بصيص نور له. المناخ العدمي يعني العبثية: عالم اللامعقول (يذكرنا بمسرحيات بيكيت ويونسكو وهارولد بنتر وأيبو الملك…). إنه في تلك النقطة الغامضة التي يتساوى فيه الإنسان بالأشياء، التي يفقد فيها الإنسان مقومات وجوده، وملكاته النفسية والعقلية والإرادية. روبو تحركه اعتمالات مشوشة، مريضة، موبوءة، أي ليتحول شيئاً يحركه شيء آخر. لا حول له إلاّ قدرة واهنة، متهالكة، على القتل. كيف يُختزل الإنسان في القتل، أو الكراهية، أي العدمية المطلقة. والعدمي يُعدم كل ما يلمسه، لكي لا يذكره بغيابه. كانت القوة في ما مضى لتعزيز الطغيان، وصارت اليوم من علامات الأفول. دونكيشوت لم يتبق له سوى سيف خشبي، وحصان خشبي، ومخيلة فلينية طافية على خراب العالم. هذا الرئيس الذي انتهت صلاحيته، لم يبق في فمه سوى لعاب مسموم. إنها اللعبة الأخيرة، أو نهاية اللعبة (عنوان مسرحية بيكيت)، أو «انتظار غودو» الذي لن يأتي وإن أتى. وكما سُلم الجولان بأيدي والده إلى إسرائيل، ها هو الابن يسلّم سوريا إلى إيران وروسيا، والملالي، وهما أبشع الأنظمة الإرهابية في العالم.

[ شيوخ الكرامة

وأظن أن أبطال السويداء وشهيدهم الكبير «شيخ الكرامة»، رفضوا مصيراً يرسمه النظام، كما رسم لسوريا مصير النهاية. فليتناؤوا عنه، وعن هلوساته، وعن خرابه، ويحافظوا على وجودهم. رفضوا الانتحار الجماعي الذي ساق النظام سوريا إليه. رفضوا أن تدنس أرضهم أقدام عملاء إيران من ميليشيات سليماني وحزب الله. رفضوا أن يغير النظام هويتهم العروبية، ويستبدلها بهوية فارسية، كما استبدلت إسرائيل هوية الجولان العربية بهوية يهودية صهيونية!

[ .. وشيوخ العقل

أهل الجبل هم «شيوخ العقل»، رفضوا أن يحملهم النظام إلى ضفة قتل أهلهم، والتنكر لماضيهم المجيد. ومن يسترجع تاريخ هذا النظام الأسود بالتنكر للعروبة، والديموقراطية، والمقاومة، ويسترجع تاريخ «جبل العرب»، الذي قاد صفوف مقاومة الاستعمار الفرنسي وسواه، والإسرائيلي وسواه، يعرف الفارق: أناس متجذرون بترابهم الوطني، وبتاريخهم النضالي، وبوحدتهم الوطنية، وبقائدهم سلطان باشا الأطرش (هذا البطل القومي الكبير)، وآخرون (أي الأسديون) باعوا جذورهم، وجولانهم، واستقلالهم، وسيادتهم، مقابل استمرارهم في احتلال سوريا. وأي فارق عندها بين احتلال عدو، واحتلال نظام استجلب قوى الخارج، وشذاذ الآفاق، والمرتزقة، وداعش، على حساب وحدة سوريا وسيادتها! فأي نظام هذا يستقوي على شعبه بالخارج؟ أي نظام «ممانع» هذا يستعمر ناسه بجيوش يستجلبها من الخارج: من روسيا إلى إيران؟ بل أي نظام هذا يشهر عمالته للخارج ليحافظ على وجوده، أو بعض «سلطته» للخارج ليسترجع سلطته الرمزية في الداخل.

والذين يدافعون عن النظام السوري هم محتلّوه اليوم. هم منتهكوه. هم قتلة شعبه. هو شراة العقارات والأراضي. هم مغيرو هويتهم العربية. هم مقسّموه. هم مخربوه. هم مفتّتوه. هم مهجرو الملايين!

[ استقلال الجبل

وهنا بالذات نعرف لجوء أهل جبل العرب إلى «استقلالهم»، إنه ليس استقلالاً ضد وحدة الوطن، بل كأنه متجذر فيه. والاستقلال عن نظام عميل وقاتل لا يعني تقسيم الإرادة الشعبية الأصيلة، بل تعزيزها.

رفض الشيخ بلعوس ومن معه ممارسة «اللعبة الروسية» أو «الهيراكيري» الانتحاري، فقتلوه، لأنه عزّ عليهم ألا تبقى منطقة غير مدمرة، أو ناس غير مهجرين، أو أمكنة غير فارسية؛ أو رمز غير ملغى.

ثورة جبل العرب، ربيع جديد، بل خميرة

بقاء سوريا، ونضال شعبها ضد الاحتلال الإسرائيلي والإيراني والروسي!

إنه الربيع العربي في السويداء العربية!