IMLebanon

الموت جوًعا.. ببنغازي!

بدا العنوان «العفو الدولية: أكثر من 100 عائلة تواجه الموت جوًعا في بنغازي» صادًما٬ لكنه لم يكن فريًدا. نعم٬ ما هذه أول مرة يواجه فيها مدنيون عزل أبرياء احتمال سوء المصير٬ نتيجة أفعال أقدم عليها عسكريون٬ سواء كانوا منتمين لجيش نظامي٬ أو أنهم متصارعون داخل عشائر الثوريين وقبائل الثوار٬ يشعلون نار الحرائق بدل غرس أزهار الحدائق٬ ويخوضون الحروب فيما بينهم بالوكالة عن غيرهم٬ فيكتوي بلهيبها بسطاءُمْعَترون. منطق العقل يرجح أن ليس من موقف يبرر أن تعيش أسرة واحدة٬ ناهيك عن مائة عائلة٬ حال شح الطعام والماء أو الدواء٬ إلى حد احتمال الموت جوًعا وعطًشا٬ بفعل اختلاف بين فصائل متصارعة.

ربما يكون مفهوًما أن تحاصر قوات اللواء خليفة بلقاسم حفتر جيوب عناصر «داعش» المتحصنة بين بيوت مدنيين في بنغازي ­ وهذه خطيئة أقدمت وتقدم عليها دول وتنظيمات عدة ­ لكن ليس مقبولاً وفق أي قانون٬ مدني أو عسكري٬ أن يتحمل العبء أبرياء عزل٬ ليس بينهم من يقبل للحظة واحدة العيش تحت سلطة داعشية ليست منهم٬ ولا تمت لجوهر دينهم بأي صلة. لكن٬ مرة أخرى وما هي بالأخيرة٬ سوف يظل يتكرر السؤال: لماذا أمكن لتنظيم داعش الوصول إلى ليبيا٬ من هو الطرف الذي مّكن أولئك النفر من التمدد ما بين الرقة في سوريا والموصل بالعراق٬ ثم الوصول إلى سواحل ليبيا؟ لست أزعم أنني أعرف دقيق الجواب. لدّي٬ كما كثيرين غيري٬ شكوك كثيرة٬ وتحوم الشبهات حول أطراف عدة. وفقا لتساؤل أغاثا كريستي٬ روائية الجرائم الذائعة الصيت: «من المستفيد من الجريمة؟»٬ فإن تلك الأطراف هي المستفيدة من تفتيت العالم العربي دويلات طائفية. ثم٬ ليس سًرا٬ بل يعرف كل مهتم٬ أن مقولات «إعادة العرب إلى حكم ملوك الطوائف»٬ أو «بلقنة الشرق الأوسط»٬ أو «قبرصة لبنان»٬ عرفت طريقها إلى عقول الجمهور العربي٬ عبر وسائل الإعلام٬ منذ اندلاع حرب لبنان الأهلية (أبريل ­ نيسان 1975 (ثم تصاعد انتشار تلك المقولات مع عودة الخميني إلى إيران (فبراير ­ شباط 1979 (خصوًصا أن الرجل لم يخِف نيته نشر «الثورة الإسلامية» في الجوار.

ُترى أهي مصادفات٬ أم أن الشرُمراٌد للعرب والمسلمين منذ زمن٬ وبادر بعض منهم إلى شراء أسهم في بورصاته٬ ولو بحسن نّية٬ وبظن أنه خير طال انتظاره٬ ولما تبّين الخيط الأبيض من الأسود٬ كان الوقت قد فات؟ أيًضا٬ لست أزعم معرفة بدقيق الإجابة٬ وما تلك مهمتي على أي حال٬ يكفي الكاتب أو المعلق أن يسلط بعض ضوء علّه يكشف من الجوانب أو الآفاق ما يعين المعني بالغوص أكثر في أعماق النصوص والوثائق٬ بغية التوصل للفهم الأدق.

بعدُظهر الأربعاء الماضي٬ جلست أنتظر موعدي بقاعة فحص الدم بمستشفى كنغستون.َظهر الرقم (151 (على الشاشة وتبعه صوت يطلب مني التوجه إلى الغرفة الخامسة.

أخذت مقعدي أمام المختص وانتبهت أن اسمه المثّبت على صدر معطفه الأبيض هو «ريموندِّ وْل»٬ فحييته بالاسم. فجأة أتاني صوت يحييني بالعربية٬ فإذا به أحد رفاق مشوار الغربة اللندنية منذ زمن العمل مًعا بجريدة «العرب». تبادلنا حديًثا موجًزا على أن نكمل لاحًقا. أوضحت لمستر ريموند أنني لم أقابل ذلك الصديق منذ فترة طالت٬ فرد قائلاً: عندما تلتقي قدماء أصدقائك بالمستشفى٬ تدرك كم أن العمر تقدم بك فعلاً. ابتسمت بدوري٬ وقلت إن اسمه يذكرني باسم صديق قديم لي٬ ما أزال ألتقيه خارج المشافي.

استغرب فقال: لم أكن أعرف أن العرب يسمون أبناءهم بهذا الاسم. أدهشني استغرابه٬ لكني فجأة تذّكرت رواية صحافي معروف عن دهشة معمر القذافي إزاء أن هناك عرًبا مسيحيين. حصل ذلك عندما كانت طرابلس محًجا لصحافيين عرب كبار وسياسيين ثوار٬ كٌل منهم يسعى في مناكبها طلًبا لصفقة٬ أو إتماًما لمشروع. الصحافي الكبير ذاته٬ حقق لاحًقا حلم إنشاء دار صحافية٬ وسمعته يكاد ينفجر ضاحًكا إذ يروي كيف أسّر له معمر القذافي أنه كان يفضل لو أن عاصمة عربية أوفدت له مسؤولاً يحمل اسم محمد٬ حتى لو كان لقبه «كذبني» بدل أن ترسل مبعوًثا باسم مسيحي٬ ولو أن لقبه يتصل بصفة الصدق. أستطيع هنا نشر صريح الأسماء٬ لكن احترام رحيل البشر إلى عالم ما بعد الحياة مهم وضروري٬ ثم إن الأهم هنا هو المغزى٬ وليس الشخص. تلك الواقعة كانت من أعراض ما سيتضح فيما بعد عن حقيقة فهم القذافي وأفكاره. ولو أن الإدراك حصل

مبكًرا٬ ولم تتنافس نخب الوسطين الإعلامي والثقافي العربية في تمجيد زعماء وتقديس حركات وأحزاب٬ لربما أمكننا تجّنب مجاعات كثيرة٬ ومآس أكثر٬ ببنغازي وغيرها.