IMLebanon

سوريا بلا سوريين؟

هذه البلاد على موعد مع ماذا؟ ليس عندها غير حاضرها. الغد لم يقطع بعد بطاقة قدومه، والماضي يتقدم بصفته الممثل الشرعي للأزمنة العربية.

هنا زمن مقفل. البدائل تنسحب من التداول. البديل السلمي عن الحرب، سراب. البديل العلماني عن التوحش الديني، تيه. البديل الديموقراطي عن الاستبداد، غيمة صيف. البديل الحداثي عن التخلف، تخرُّص. البديل الوطني عن الطوائفية والمذهبية، فات أوانه. البديل التنموي العادل عن التخلف والسلب، لا يسمع به أحد.

البديل العربي والعروبي عن الكيانات المخلَّعة والممالك الطاعنة والسلفيات المستنفرة، اجتهاداً وقتالاً وفتكاً، لم يعد وارداً… هذه بلاد ليس عندها غير حاضرها المغلق. لا أحد ينتظر شيئاً. الأمام سراب والوراء وحش وما بينهما، أمة تستوطن فوهة القتل. الحقيقة تصرخ في الوجوه المتسائلة: «لا تنتظروا حلولاً»، فهذا زمن أو كفن. احتمالات الحياة حظ نادر الحدوث.

ولا مبالغة في ذلك. الأمكنة العربية شواهد على انعدام البدائل. الساحات تنذر بمزيد من الانهيارات، العنف استتب على مدار الوقت، الاقتتال يحسِّن من فنون بقائه واستمراره وانتشاره. حظوظ الحل على مدار الصفر. كل صحوة مفاجئة تكتشف أن المصير يشبه الاحتضار… استفظاع هذا الوصف مردود.

«فهل جاءتكم أخبار ارتحال السوريين إلى المنافي»؟

قليل من الواقعية. دمشق متوقفة عند محطة جنيف. لا نص يضاف إلى ما كتب في الاتفاق ولا نص يُحذف. قراءته مزدوجة ومتناقضة. ما لم يكتب فيه هو الأساس.

بعيداً عن جنيف، تغيَّرت خرائط، إمَّحت حدود، اغتيلت مدن، دُمرت بلدات، استؤصلت جماعات، أُعدِمَت حضارات، هُجِّرت أعراق، توحشت ديانات.

بعيداً عن جنيف، حُذِف شعب عن بكرة مدنه وقراه وأرحامه. وطنه حيث قدماه. شعب يرتجل رحيله وغيابه وبؤسه. يتشلع بعضه ويتساقط على ضفاف الطرق المديدة وبين الأمواج القاتلة. شعب يغامر بالموت، يقاتل باليأس، من أجل حفنة من السلامة، من أجل إقامة في عراء إنساني، من أجل عبور فوق قبر من بحر. يطأ المجهول ليقيم بسلام عار من الدفء والكرامة والوطن.

هذا زمن قال فيه المعرِّي المغدور:

«إذا عُدَّت الأوطان في كل بلدةِ

لقوم سجونا، فالقبور حصونُ»

و.. «يحطِّمُنا ريب الزمان كأننا

زجاج ولكن لا يُعادُ له سبكُ».

هذا زمن قاتل. حظوظ الحل وهم. الحَكَم بين أطراف النزاع في سوريا هو القتال حتى الرمق السوري الأخير. لم يُهزم أحد بعد ولو كان خاسراً. لم ينتصر أحد ولو كان رابحاً. التعادل هذا يجعل المعادلة العبثية مزدهرة: «نموت لكي لا يحيا البلد». وعليه، لا النظام مستعد لحل سياسي من دون الأسد، وقبل هزيمة الإرهاب والانتهاء من «داعش»، ولا «المعارضة» ومن بات منها «متوحشاً» منضبطاً بأمر من حُماته، يقبل بحل لا يطيح الرئيس.

الداخل السوري أفرغ من البديل السياسي. الأمر اليومي هو لمزيد من القتال والركام. تكاد سوريا تصير بلا سوريين. دول الإقليم عاجزة بإرادتها عن «تأليف» بديل. هي مشتبكة في اليمن. السعودية تعادي ولا تصالح ولا تقبل بأن يكون لإيران موقع قدم خارج حدود بلاد فارس. هي كذلك منذ انتصار ثورة الخميني. حرب صدام على إيران، كانت بإمرة سعودية تمويلاً وتذخيراً ودعماً… تركيا تخوض حربها ضد الأكراد ومنشغلة بـ «الإخوان» أينما كان، وقد باتوا على غروب. روسيا وأميركا يحاولان تفكيك جنيف وتليينه، كي لا يزداد التورط الروسي والاعتراض الأميركي. إيران المنتشرة شيعياً، تواجه حلفاً سنياً لا يهادنها. هي جزء من المشكلة وليست جزءاً من الحل، إلا بعد توزيع الأنصبة والحصص، في زمن لم يأت بعد.

وكما في سوريا، كذلك في العراق. «داعش» مستقرة في جغرافيا عراقية حساسة. تزداد حضوراً ومراساً وحكماً. الحرب الجوية الدولية خائبة. النفير المحلي والإقليمي والدولي بلا صدى. العراق يكاد يكون بلا سلطة فاعلة، وبلا جيش وبلا غد. البدائل غائبة. إنه يعيش في حرب وغارق في الفساد ومهدّد بالتكاثر الكياني. كيانات الأقوام والمذاهب أقوى من العراق. واليمن ينسحق كذلك. لا بدائل عن حروبه. السعودية تريد استعادة اليمن، وإخضاعه لبيت الطاعة. هذا زمن التحلُّل وليس زمن التحوُّل والتبدل. ليبيا نموذج لفوضى ترفدها قوى تقاتل حتى الرمق الأخير. وهي على موعد دائم مع العنف. لا بديل سياسياً يقودها إلى استقرار، ولا أحد قادر على مساعدتها. النظام العربي الرسمي بات جثة، بشبهة تمثيل العرب. نظام يشكر الغرب لأنه فتح أبوابه للمطرودين من سوريا. نظام أقفل أبوابه أمام استضافة «الأخوة المهجرين»، مفضلاً الإنفاق العسكري على القتال في سوريا وغيرها، على «فلس الأرملة» الإنساني لرفع الظلم عن بؤساء الحروب العربية.

هذا زمن مقفل. لبنان تدافع طبقته السياسية عن نفسها براية مهترئة. مناعة لبنان متأتية من تساوي أطرافه بالعجز. ولا دولة لها هذا الرصيد الهائل من العجز وتوظيفه. لبنان اليوم، كيان بنظام مفلس وأركان حكم يدينون بعقيدة العجز. لا إمكانية لبديل تجترحه هذه الطبقة، كل الطرق مقفلة وكل المؤسسات معلّقة في الفراغ، وكل الحوارات محكومة بالصمم.

وأما «الحراك»، فهو وعد. لعله الوحيد في هذه البلاد، بعد تونس، يرهص بزمن آخر قادم قد يتأخر، ولكنه ممكن. «الحراك» ليس بديلاً من النظام.

زمن الحراك مفتوح على الغد. أزمنة الأنظمة العربية وحروب أنظمتها وعنف جماعات التكفير، مفتوح على الهاوية.

ليس بوسعنا أن نفقد الأمل بالشعوب. فالشعب قد يكون، ذات يوم، هو «صاحب الزمان».