IMLebanon

تعدّدت النفايات والسبب واحد

قد يكون السبب في امتناع علماء الاجتماع والباحثين عن تناول الظاهرة اللبنانية الحديثة، هو تجاوزها المتصوّر والمعروف من الظواهر الهجينة والمعتلّة. فلبنان، برغم وفرة المفكرين والمنظرين، لم يحظ بواحد من هؤلاء لينصرف إلى دراسة ظواهره المجتمعية باختلالاتها وانحرافاتها، على غرار ما فعله علي الوردي في العراق، وعلي شريعتي في ايران، ومالك بن نبي في المغرب العربي و…

فمن الممكن أن يكون الشأن اللبناني عصياً على الدراسات السوسيولوجية المعمّقة، لتماديه في الخروج عن سياق الاستثناء والاعوجاج، فتغدو القواعد المنهجية في حالة عجز وعدم إنتاج مقابل ظاهرة فاقت المتخيّل في انحرافها، وتجاوزت الشاذّ من الظواهر في غرابتها. ما يعني أن علوماً من قبيل المتودولوجي وطرائق التفكير والإبستمولوجيا والانتروبولوجيا، لم تبلغ من التطور بعد ما يتيح لها فهم الظاهرة اللبنانية ومعالجتها عبر اختراق عمقها وتفكيك تعقيداتها وعناصرها بكاملها.

الفرد في لبنان هو الطائفة في أضيق صورها العصبوية. والطائفة هي الفرد المتشكل على أساس ثقافة القبيلة والجماعة. فالعلاقة بين الجانبين تبلغ حد التماهي وفق قاعدة أن لا تحقق للفرد خارج الطائفة كما لا حضور للطائفة من دون أفراد عصبويين. من هنا، تتمحور الظاهرة الاجتماعية اللبنانية على فردانية مقفلة داخل «الأنا» الضيقة بحيث لا تتخطى، في طورها الجمعي، الحزب أو الطائفة كحد أقصى للتشكل ضمن الهوية بمعناها الامتدادي. هي ظاهرة تقوم على جعل الزعيم بديلاً من الدولة والطائفة بديلاً من الوطن. لهذا تبقى «الأنا» العصبوية في حال استنفار دائم تحسباً لزكام يصيب الزعيم أو مكروه يصيب الجماعة، فيما السبات وقلة الاكتراث يسودان إزاء كل ما يمس الدولة والوطن والشعب (خارج التحيز الطائفي) من خطر وترهل وفساد ونفايات.

مأساوية الواقع اللبناني تتخطى حدود المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الراهنة إلى العناصر المشكلة لبنية لبنان الحديث، كما تتجاوز العوامل السياسية إلى محددات عميقة، لا يمكن التغاضي عن ربطها بما يمكن تسميته بفاعلية الارتكاس الحضاري. كل ما يتصدر المشهد السياسي من تأزيم هو نتاج تخلّف متداخل بين المكوّنات الطوائفية. ففي بلاد الأرز لا قيم حاكمة خارج الطائفية، والسياسة ليست سوى وسيلة لجلب منفعة الطائفة ممثلة بجماعاتها وأحزابها. المحرّك الأول للناس هو الطائفة التي يجري العمل لأجلها على طريقة القبيلة المختزلة بالزعيم الذي يجري الخضوع له على طريقة الإله.

لعلّ متلازمة عقدة ستوكهولم هي الحالة المرضيّة الأكثر انطباقاً على الظاهرة اللبنانية، إذ هي حالة من التعاطف والإخلاص والخضوع يبديها المخطوف المضطهَد إزاء الخاطف المجرم، حيث تقوم الضحية لا إرادياً، بصنع آلية نفسية للدفاع عن الذات، وذلك من خلال الركون والاطمئنان للجاني، خاصة إذا صدر عن هذا الأخير بادرة تنمّ عن وداعة واهتمام، حتى لو كانت هذه البادرة بسيطة جداً وعلى حجم ابتسامة، فتعمد الضحية إلى تضخيمها واعتبارها مصدراً للخير كله والإحساس بالامتنان اللامتناهي.

يحتاج اللبنانيون إلى ما هو أبعد من مؤتمر تأسيسي وعقد اجتماعي جديد. هم يحتاجون أولاً، وقبل أي شيء، إلى مستبد عادل لا تأخذه في إجراء العدالة لومة لائم، ولا يتردد في طمر النفايات بأشكالها كافة. ثم يحتاجون ثانياً الى طبقة سياسية جديدة تدير البلاد بعقلية رجال الدولة، لا بعقلية العصابات.

تعدّدت النفايات والسبب واحد.