Site icon IMLebanon

فائض الحبوب العالمي يقلص فاتورة الغذاء

FinancialTimes
جريجوري ماير

الصومعة الجديدة المثيرة الشاهقة، مثل صاروخ فوق بلدة مونتيسيلو البرية في إلينوي، التي أضافتها شركة توبفلايت التعاونية للحبوب تواً إلى مجمّع التخزين، بإمكانها تخزين كميات كبيرة من الذرة بحدود 19 ألف طن.

لكن بعد فصل صيف معتدل ورطب – الطقس المثالي لزراعة أكواز مكتنزة من الذرة الصفراء – فإن الطاقة الاستيعابية الإضافية قد لا تكون كافية. ديريك برون، تاجر الحبوب في توبفلايت، يحذّر من أن بعضها سينتهي المطاف به مُكدّساً في أكوام عالية في الهواء الطلق مع ترك المزارعين لمحاصيلهم.

ويقول: “سيكون من الصعب العثور على مكان لوضع كل شيء”.

ولاية إلينوي تعيش فترة انتعاش مذهلة في مجال إمدادات الحبوب العالمية. فبعد عقد تقريباً من النقص وزيادة الأسعار، انخفضت أسعار السلع الزراعية إلى أرخص مستوى لها منذ أربعة أعوام. وسيكون للوفرة الجديدة آثار واسعة من خلال إضعاف دخل المزارعين والشركات التي تتولى توريدها، ما يضعف هوامش الربح في شركات المواد الغذائية والوقود الأحيائي – وفي النهاية – تباطؤ التضخم في أسعار المواد الغذائية للمستهلكين في البلدان الغنية والفقيرة على حد سواء.

يقول التُجّار إن الولايات المتحدة، باعتبارها أكبر مُصدّر زراعي، تُحدد الاتجاه للأسواق العالمية. إلينوي وغيرها من الولايات الواقعة على “حزام الذرة” الأمريكي في الغرب الأوسط في سبيلها لإنتاج محصول ذرة بمستوى قياسي للعام الثاني على التوالي. وتتوقع الحكومة أيضاً أن يكون محصول فول الصويا الأكبر على الإطلاق.

صورة الوفرة هذه تمتد عبر نصف الكرة الشمالي. في كندا ارتفعت مخزونات القمح والشوفان والشعير عن ضعف معدلاتها في العام الماضي، بعد محاصيل ضخمة في سهولها الغربية. كذلك من المتوقع أن تحطم محاصيل القمح والذرة في أوروبا الأرقام القياسية.

حتى الأزمة بين روسيا وأوكرانيا لم تُلحق الضرر بمكانتهما في أسواق الحبوب العالمية. فعلى الرغم من حظر واردات المواد الغذائية في الشهر الماضي، إلا أن روسيا كانت تحمل السفن بصادرات هائلة من القمح والشعير. ويقول مسؤولون تنفيذيون إن مزارعي أوكرانيا المتعطشين للدولارات هم أيضاً باعة متحمسون للذرة والقمح.

وتعتزم الصين إضافة ما سعته 50 مليون طن من مرافق التخزين بحلول العام المقبل، في الوقت الذي تُكافح فيه مع وفرة مخزونات الذرة والأرز، وفقاً لصحيفة “الصين” اليومية التي تُديرها الدولة.

ويقول عبد الرضا عباسيان، وهو اقتصادي أول مختص في الحبوب في منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة “فاو” في روما: “لقد حصلنا بشكل مفاجئ على محاصيل كبيرة في كل مكان”. وتُشير تقديرات منظمة الأغذية والزراعة إلى أن مخزون العالم من الحبوب العام المقبل سيكون مساوياً لـ 25 في المائة من الاستهلاك العالمي السنوي، وهي أعلى نسبة منذ عام 2003. كما ساعدت أسعار الحبوب الضعيفة على دفع مؤشرات السلع إلى أدنى مستوياتها منذ خمسة أعوام.

تحول جذري

حالة العرض المتدفق هذه تعد انقلابا مذهلا عما عليه الحال في التاريخ الحديث. ففي عامي 2007 و2008 أثارت المخزونات المنخفضة ارتفاعاً قوياً في الأسعار وأعمال شغب في عشرات البلدان من هاييتي إلى الهند. وأدى حظر على تصدير الحبوب في روسيا، تم الإعلان عنه خلال موجة حر مدمرة في آب (أغسطس) 2010، إلى زيادة أسعار الحبوب إلى مستويات يقول بعض العلماء إنها ساهمت في انتفاضات الربيع العربي في العام التالي. وفي عام 2012 أدت أسوأ موجة جفاف منذ سنوات عواصف الغبار في الثلاثينيات، إلى جفاف حزام الذرة الأمريكي.

التحوّل نحو الفائض بمجمله هو أكثر من رائع لأن الكثير من الاتجاهات طويلة الأجل التي تُرهق الإمدادات الغذائية لا تزال قائمة. فعدد سكان العالم مستمر في النمو، المستهلكون في البلدان النامية يأكلون مزيدا من اللحوم التي تتغذى على الحبوب. ومصافي الوقود الأحيائي تضخ الكثير من الإيثانول، على الرغم من أنها قامت مرة أخرى بقمع وتيرة التوسع المتهورة السابقة. وتغير المناخ يجعل التقلبات الشديدة في الطقس أكثر تكراراً، وهو ما يُعرّض المحاصيل الزراعية للخطر.

لكن حتى عندما يعود الطقس الصعب – في الواقع، الاحتمالات تفضل قليلاً نمط إل نينيو المرتبط بالظروف القاسية – فإن المحاصيل الكبيرة لعامي 2013 و2014 ستترك إرثاً دائماً. مع إعادة بناء المخزون والخروج من المستويات المنخفضة الخطيرة، أصبح العالم يملك وسيلة حماية ضد صدمة الإمدادات التالية.

يقول خوسيه كويستا، وهو اقتصادي أول في البنك الدولي: “المخزون مثل التأمين تحتفظ به للأوقات السيئة. وله تأثير نفسي أيضاً، فهو يمنح التفاؤل للأسواق. أنا اعتقد الآن أن هناك تفاؤلاً معيناً يستقر في الأسواق الدولية”.

يقول برون إن مخزون الذروة وفول الصويا في العام الماضي في شبكة صوامع توبفلايت تضاءل إلى 100 ألف بوشل (2540 طناً). وقبل الحصاد الجاري الآن تم إعادة بناء المخزون ليصبح 200 ألف بوشل، على الرغم من الطلب القوي من مصانع معالجة الأغذية على مستوى صناعي، والتي تتولى تشغيلها شركات أرتشر دانيالز ميدلاند وتايت آند لايل في ديكاتور المجاورة. ويتوقع برون إن تخزن صوامع توبفلايت 1.5 مليون بوشل في أوائل شهر أيلول (سبتمبر) عام 2015. والكثير منها سيبقى هناك “بإمكاننا تخزينها لمدة ثلاثة أو أربعة أعوام”.

“التخزين”، وهو مصطلح قديم لتجار الحبوب أصبح مقبولاً لدى المتداولين الماليين، عاد إلى الأسواق الزراعية بمنتهى القوة. قبل عامين كانت عقود الذرة الآجلة لشهر كانون الأول (ديسمبر) 2012 تحقق 1.50 دولار للبوشل أكثر من تسليم كانون الأول (ديسمبر) المقبل – وهو ما يمنح التجّار سبباً لبيع، وليس تخزين، سلعتهم.

في مثل هذا الأسبوع من كانون الأول (ديسمبر) عام 2014 كان سعر الذرة أرخص 86 سنتاً من الذرة التي سيتم تسليمها في الشهر من عام 2016. مجرد الاحتفاظ بالذرة حتى ذلك الحين سيعمل على تحقيق أموال سهلة لأي شخص يمكنه الوصول إلى مخزون متاح. هذا أحد الأسباب لكون أسهم الشركات ـ مثل “آيه دي إم” و”بانج” اللتان تملك كل منها شبكات واسعة في تجارة الحبوب ـ تفوّقت على أداء سوق الأسهم الأمريكية منذ حزيران (يونيو). ويقول راي يونج، كبير الإداريين الماليين في شركة آيه دي إم، إن وحدة تخزين كبيرة للحبوب “تسمح لنا بإنعاش المدخلات بأسعار جذابة إلى حد ما. ولأن أسعار الفائدة منخفضة، فإن تكلفة تمويل المخزون تكون رخيصة للغاية”.

حقيقة شائعة

إنها حقيقة غالباً ما يتم سماعها في أسواق السلع: الأسعار المرتفعة أفضل علاج للأسعار المرتفعة. وقد كانت أسعار الحبوب مرتفعة.

وتجاوزت الذرة في تموز (يوليو) 2012 ثمانية دولارات للبوشل، وهو وقت كانت فيه درجات الحرارة العالية قد أحرقت مساحات قياسية من الحقول الأمريكية. وفي عام 2005 كان متوسط سعر الذرة دولاران للبوشل. ووصل القمح إلى تسعة دولارات عام 2012، مرتفعا ثلاثة دولارات عما كان عليه قبل سبعة أعوام من ذلك.

لقد أدرك المزارعون الأمر. على الصعيد العالمي، الأراضي المزروعة بالذرة أو فول الصويا أو القمح زادت 11 في المائة لتصبح 514 مليون هكتار بين عامي 2005 و2013، وفقاً لإحصاءات منظمة الأغذية والزراعة. وفي الولايات المتحدة تمت زراعة مساحات قياسية بفول الصويا هذا الربيع، وهي منطقة أكبر من فنلندا أو ماليزيا. ولاحظ أنصار حماية البيئة أن بعض هذه المساحات كانت في السابق موئلاً للحياة البرية.

في مقاطعة ديفايد، في ولاية داكوتا الشمالية، على الحدود الأمريكية مع كندا، يزرع المزارعون خمسة أضعاف مساحة الذرة التي كانت تُزرع قبل عقد من الزمن على الرغم من موسم نموها القصير للغاية.

ويقول كليف أورجارد، العضو المنتدب في وكالة خدمة المزارع الفيدرالية في المقاطعة: “نحن في أبعد نقطة يمكن أن تصل إليها في الشمال. لقد ارتفع الطلب على الذرة بثبات كبير بسبب أسعار الإيثانول والأعلاف والمواشي، لذلك المنتجون هنا يرغبون في تجربة ذلك”.

لم يكُن بالإمكان التنبؤ بالمحاصيل – كمقياس للإنتاجية – في الأعوام الأخيرة، لأن تقلبات الطقس الشديدة كانت تُعادل التطورات التكنولوجية مثل الجرارات ذات التوجيه الذاتي والبذور ذات التكنولوجيا الأحيائية. فقد وصلت محاصيل فول الصويا الأمريكية إلى ذروتها عام 2009 بإنتاجية تعادل 44 بوشل للفدان الواحد، وبعد ذلك انكمشت بمقدار العُشر. وهذا العام محصول فول الصويا سيصل إلى نحو 46.6 بوشل للفدان.

ويقول يونج من شركة آيه دي إم: “أنا أؤمن بقانون المعدّلات – بالعودة إلى المتوسط. كانت لدينا بضعة أعوام من المحاصيل الأمريكية التي كانت أقل بكثير من الاتجاه. عندما نظرت إلى خط الاتجاه العام، كنت أتوقع فعلاً في بعض المنعطفات أننا سنحقق نجاحاً في الولايات المتحدة”.

تغير المناخ

لقد وجدت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، التابعة للأمم المتحدة، أن تغير المناخ حين يُنظَر إليه على مدى أفق زمني أطول، نجده بدأ بتقليص محاصيل القمح والذرة. ويحذر تقرير تقييم المناخ الوطني الذي نُشر بطلب من الحكومة الأمريكية، من “تزايد عدم اليقين” لإجمالي الإنتاج. ويقول: “إن التحليلات الأخيرة تُشير إلى أن تغير المناخ له تأثير هائل في التقلبات في أسعار الذرة من عام لعام في الولايات المتحدة”.وفي حين أن الأمر قد يبدو مفاجئاً، كما يقول جين تاكل من جامعة ولاية أيوا، وهو مؤلف مشارك بارز في تقرير تقييم المناخ، إلا أن الموسم الزراعي الوفير في الولايات المتحدة كان متناغماً مع توقعات المناخ. الولايات مثل أيوا تحصل على أمطار غزيرة في فصل الربيع، وهي سمة منتظمة للأعوام الأخيرة. وفي حين أن الأمطار قد تؤدي إلى تأخير الزراعة وتسبب انجراف التربة، كذلك التربة الرطبة تُمكّن المزارعين من وضع المزيد من بذور الذرة في كل فدان، الأمر الذي يزيد المحصول.

ويقول البروفيسور تاكل: “ليس من المؤكد في رأيي أنه إذا حصلنا على مناخ الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، فإن هذه النسبة العالية من المزروعات قد تبقى على قيد الحياة”.

ما افتقر إليه هذا الصيف كان درجات الحرارة القصوى للأعوام الأخيرة. الليالي الحارة ألحقت الضرر بمحاصيل الذرة في عامي 2010 و2012. وبحسب البروفيسور تاكل: “درجات الحرارة القصوى لا تتكرر كثيراً، لكنها تحدث الآن أكثر مما كانت عليه قبل 30 عاماً. تلك الاتجاهات لا تزال تحدث. نحن نرى الكثير منها، ويتخلّلها بعض الأعوام الجيدة جداً كالتي نمر بها الآن”.

متى ستقوم درجات الحرارة القصوى بعد ذلك بتدمير محاصيل الحبوب؟ هذا سؤال بلا جواب حتى الآن. الجفاف الشديد ألحق الضرر بشجيرات القهوة في البرازيل هذا العام، لكنه لم يُصب محاصيلها من الذرة وفول الصويا، وهي الأكبر في نصف الكرة الجنوبي.

مع ذلك، الاعتقاد بأنه سيتم تعويض النقص من خلال المخزونات الوفيرة يبدو أنه على نطاق واسع. ويلاحظ أحد المسؤولين التنفيذيين في صناعة التداول، إن الحكومات في الشرق الأوسط – كبار مشتري القمح من منطقة البحر الأسود – التي لا تخزن الإمدادات إلا لمدة ثلاثة إلى ستة أشهر مسبقاً، بالكاد تعمل على زيادة المشتريات، على الرغم من الأسعار المنخفضة. ويقول: “يعرفون أن الإمدادات موجودة. فلا أحد ستنقصه الإمدادات لمدة عام”.

الطلب الصيني

في تايسون فود، شركة إنتاج لحم البقر والخنزير والدجاج التي يوجد مقرها الولايات المتحدة، لن تتغير استراتيجية شراء حبوب العلف. وأخيرا قال دوني سميث، الرئيس التنفيذي للشركة: “ستكون لديك بيئة حبوب مواتية”.

وبدأ المحللون بإعادة النظر في الافتراضات. ففي وقت سابق من هذا العام، توقعّت وزارة الزراعة الأمريكية أن الصين ستتفوّق على اليابان باعتبارها أكبر مستورد للذرة في عام 2020.

لكن منذ ذلك الحين توقفت واردات الصين من الذرة. والشحنات من الولايات المتحدة انتهت تقريباً بعد أن قالت بكين إنها تحتوي على سمة وراثية لم تتم الموافقة عليها بعد داخل الصين. فريد جال، وهو اقتصادي أول في وزارة الزراعة الأمريكية، يقول: “إن الأمر مُحيّر. أحد الأسئلة التي نتصارع معها الآن هي ما إذا كان هذا هو ظاهرة، مؤقتة أم أن حكاية حاجة الصين للاستيراد سوف تنتهي”. هناك محرك آخر للطلب على الحبوب في الأعوام الأخيرة هو الوقود الأحيائي. بدافع من الصلاحيات الحكومية وأسعار النفط المرتفعة، كمية الذرة الأمريكية التي يتم تحويلها إلى إيثانول ارتفعت من 1.6 مليون بوشل في عام 2005 إلى أكثر من خمسة مليارات هذا العام. وهذه السوق لا تزال على قيد الحياة، لكن مستقبلها موضع شك، على اعتبار أن البيت الأبيض يعتزم تقليص أهداف الاستهلاك. وبالنسبة للمزارعين في حزام الذرة، فإن آفاق الإمدادات الأعلى والأسعار الأدنى تثير القلق. ويقول تيري ليب، الذي يزرع ثلاثة آلاف هكتار خارج مونتيسيلو مع ولديه: “كانت السنوات القليلة الماضية هي العصر الذهبي للزراعة. لكن الزراعة، إذا كنتَ تعمل فيها منذ فترة طويلة، تسير كلها في دورات. الآن تحولت الأمور إلى دورة من الركود مرة أخرى. وستكون الأمور شاقة مرة أخرى لبضع سنين مقبلة”.