Site icon IMLebanon

اقتراح لتنظيم العمل بدوام جزئي: تهديد مكتسبات العمال


محمد وهبة
على مرّ السنوات، نجح أصحاب الرساميل في انتزاع مكاسب لا تحصى ولا تعد، صبّت في تركيز المزيد من الثروة لديهم. حصل ذلك على حساب حقوق العمال ومكتسباتهم. تكفي الإشارة الى أن حصة الأجور من مجمل الناتج المحلي تدنت من نحو 60% في السبعينيات الى أقل من 25% حالياً، وبالتالي ارتفعت حصة الأرباح الى أكثر من 70%، فيما نصف الأجراء في لبنان غير مصرح عنهم ولا يستفيدون من أي ضمانات أو تقديمات أو بدلات.

في هذا السياق، يأتي اقتراح «تشريع دوام العمل الجزئي»، وهو اقتراح يحاول أن يبني على تجربة شبيهة بصيغ «المياومة» التي اعتمدتها الدولة، خلافاً للقوانين، طيلة الفترة السابقة. وعلى الرغم من المساوئ الجمة للمياومة، يهدف الاقتراح الى تحرير صاحب العمل من أحكام قانون العمل، إذ تحت حجّة توفير «وظائف بدوام جزئي» للطلاب الجامعيين والنساء ربات الأسر، يطلب تجمع رجال الأعمال اللبنانيين تشريع اعتماد الأجر على الساعة (أو اليومي) من دون بدلات النقل ومنح التعليم ومن دون إجازات مدفوعة أسبوعية أو سنوية أو مرضية أو أمومة… وكذلك من دون تغطية صحية إلا في إطار التأمين ضد طوارئ العمل والأمراض المهنية. وبحسب المعلومات، يتضمن الاقتراح سعياً دؤوباً للتفلت من موجب تسديد الاشتراكات للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (أو خفض معدّلاتها) بحجّة التشجيع على التصريح عن العمال.

هل يحدّ من البطالة؟

خرج هذا الاقتراح الى العلن قبل نحو أسبوع، في ندوة نظمها تجمّع رجال الأعمال بحضور وزير العمل سجعان قزي، فطالبه بتشريع «دوام العمل الجزئي». برّر رئيس التجمّع فؤاد زمكحل الطرح بالإشارة إلى «وجود عدد كبير من الشركات والمحال التجارية والمطاعم والفنادق وغيرها من المؤسسات التي توظّف طلاباً جامعيين بدوام جزئي وفقاً لاحتياجاتهم وتفرّغهم». وأضاف إن من المهم «تنظيم العمل بدوام جزئي، بحسب المعايير الدولية، وبالتالي إعطاء كل من هؤلاء الموظفين الشباب حقوقهم، إنما مع دراسة دقيقة للاشتراكات المفروضة على الشركات لصالح الضمان الاجتماعي». في رأي زمكحل، أن هذا الاقتراح «يحدّ من البطالة، ويشجّع المنخرطين الجدد في الحياة المهنية على إيجاد فرص عمل من دون تأخير، ويضمن مدخولاً شهرياً يتيح لهم الاعتماد على أنفسهم في عمر مبكر مع اكتساب الخبرة اللازمة». وقال زمكحل لـ«الأخبار» إن هدف المشروع لا يتصل بخفض الأكلاف عن الشركات بمقدار ما يتصل بكيفية توفير استفادة العاملين من تقديمات الضمان الاجتماعي. ويشير إلى أن هذه الفئة من العمالة التي تعمل حتى 3 ساعات يومياً، «تخضع للاشتراكات ولا تستفيد من صندوق الضمان، وهو الأمر الذي يدفع الشركات إلى توقيع عقود (برّانية) مع العمّال، ما يجعلها تدفع مبالغ لا يستفيد منها العمال ولا تمنحهم حقوقهم في تعويضات نهاية الخدمة». ويلفت زمكحل إلى أن إقرار هذا التشريع «يجب أن يكون متماشياً مع القواعد المعمول بها عالمياً لجهة وجود تشريعات خاصة بالعمل الجزئي، ونحن جاهزون لاعتماد المعايير الدولية بالاتفاق مع النقابات العمالية المحلية، علماً بأن هذا الطرح لم يلق أي اعتراض من الاتحاد العمالي العام الذي كان ممثلاً في الندوة الحوارية».

المعايير الدولية

أعلن زمكحل التزامه بالمعايير الدولية، أي تلك التي تجسّدها اتفاقية العمل الدولية رقم 175 (اتفاقية بشأن العمل بعض الوقت)، التي اعتمدتها منظمة العمل الدولية في عام 1994، في ذروة صعود النيوليبرالية. هذه الاتفاقية غير ملزمة ولم يوقّعها لبنان. وهي تعرّف «العمل بدوام جزئي» على أنه شخص مستخدم تقلّ ساعات عمله العادية عن ساعات العمل العادية للعاملين بدوام كامل. أي أن كل أجير يعمل أقل من 8 ساعات يومياً (أو أقل من 48 ساعة أسبوعياً) يمكن عدّه عاملاً بدوام جزئي. يمكن تخيّل ما سيحصل في سوق العمل إذا تبنّت الدولة مثل هذا التشريع، إذ يوجد ميل جارف باتجاه إلغاء كل قيد مفروض على صاحب العمل في علاقته مع الأجير. ربما سيصبح أكثر الأجراء يعملون بدوام جزئي.

استبعاد العاملين بدوام
جزئي من نطاق تغطية الضمان الاجتماعي وحماية الأمومة
تنص هذه الاتفاقية على ضمان حصول العاملين بعض الوقت على الحماية نفسها الممنوحة للعاملين طيلة الوقت. إلا أنها لا تذكر سوى «الحق في التنظيم (إنشاء النقابات) والحق بالمفاوضة الجماعية، والسلامة والصحة المهنيتين». وكذلك تنص على عدم التمييز في الاستخدام والمهنة، إلا أنها تفسّر ذلك على صعيد الأجر باحتسابه على أساس الساعة وفقاً لما يتقاضاه عامل بدوام كامل.
الخطورة لا تكمن هنا فقط، بل إن الاتفاقية تشرّع «تكييف نظم الضمان الاجتماعي»، وتجيز استبعاد العاملين بدوام جزئي من نطاق تغطية الضمان الاجتماعي وحماية الأمومة… والأكثر خطورة أن الاتفاقية تجيز تحويل عقد عمل بدوام كامل الى عقد عمل بدوام جزئي، بشرط أن يكون التحويل اختيارياً. يمكن التمعن قليلاً بمعنى «الاختيار» في ظل ميزان القوّة المائل لصالح صاحب العمل.
قلق على الإنتاجية

اللافت أن دراسة صدرت في عام 2014 عن باحثين في منظمة العمل الدولية بعنوان «البحث عن نوعية جيدة من العمل الجزئي»، تبيّن أن هناك الكثير من الدول التي روّجت لدوام العمل الجزئي على أساس أنه إحدى الأدوات المحفّزة لمجموعات مثل النساء والشباب والأفراد الذين يعانون من مشاكل صحية أو كبر السن. ويضيف التقرير إن هناك مخاوف من توسع العمل الجزئي على حساب العمل بدوام كامل، فضلاً عن القلق من تضرّر إنتاجية الموظفين.
غير أن هذا الطرح يأتي في لبنان في سياق الأسئلة التي تُطرح في سوق العمل عن صرف عمّال وعن تباطؤ أعمال المؤسسات والشركات في القطاع الخاص… وهذا الاقتراح بالذات لا يخرج عن سياق هذه الخلفية التي تدفع النقاش حول آليات التكيّف مع الأزمة في اتجاه خفض المكتسبات العمالية بدلاً من العمل على تصحيح الخلل البنيوي في سوق العمل الناتج من النموذج الاقتصادي اللبناني. فهذا النموذج يغلّب الريوع على الإنتاج، وبالتالي فإن إعادة توزيع الحصص في الاقتصاد اللبناني تتطلب رؤية مختلفة لدى شركات القطاع الخاص التي تعتقد بأن الأزمة ستجعل مشروع «دوام العمل الجزئي» أمراً قابلاً للنقاش مع العمال بعد تخييرهم بين العمل الجزئي والصرف من العمل (!)

نوع من الابتزاز

في رأي عدد من الخبراء في سوق العمل، فإن هذا النوع من الابتزاز الذي يلجأ إليه القطاع الخاص يعدّ أحد أشكال الانقضاض على الأجراء في لبنان، مهما كان القصد منه وعلى افتراض «حسن النية» أيضاً. فقانون العمل لا يلغي إمكانية التعاقد مع العمال على أساس دوام جزئي، لأنه لا يحدّد الحدّ الأدنى من عدد ساعات العمل بل يحدّد أقصاها، وبالتالي فإن البحث في معدلات الاشتراكات للضمان المفروضة على العمل الجزئي أمر لا يجب أن يخرج عن السياسات الاقتصادية، فهذا الأمر يقع في جوهر الحقوق الاجتماعية في دولة لا يحصل فيها مواطنوها على حقّهم بالطبابة والاستشفاء والانتقال والتعليم… كذلك، يجب الانتباه إلى أن الحدّ الأدنى للأجر في لبنان هو أحد المكتسبات الأساسية للعمال التي إذا ضُربت ضُرب ما عداها. وبالتالي، فإن إقرار الدوام الجزئي سيلغي الحدّ الأدنى للأجر وكل ما سواه من حقوق الأجراء وكل ما هو مرتبط به، لا بل سيكون بنداً تخريبياً في سوق العمل يطيح كل القواعد، وخصوصاً أن العمل على إلغاء الربط بين الحدّ الأدنى للأجور، والرواتب والتعويضات وطرق احتسابها بدأ قبل سنوات وبدعوة مفتوحة من ممثلي أصحاب الرساميل وبدعم حكومي.
على أي حال، يشير خبراء آخرون إلى أن «حقوق الطلاب الجامعيين بالضمان الصحي محفوظة ضمن الفئة التي تصرّح عنها الجامعات وتستوفي منهم اشتراكات مقابل الحصول على هذا النوع من التأمينات الاجتماعية، فهل يقبل أصحاب العمل أن يعدل قانون الضمان بما يتيح للطلاب العاملين الاستفادة من تعويضات نهاية الخدمة وفقاً لمعدلات الاشتراكات الحالية؟ حسن النيّة تجاه العمال يجب أن يذهب في هذا الاتجاه وليس في اتجاه إخراج العمل بالدوام الجزئي من نطاق تغطية قانونَي العمل والضمان، وهذا يعني أن على أصحاب العمل التوقف عن خرق قوانين العمل وإلغاء بدعة العقود البرانية، لا العكس».