Site icon IMLebanon

أساطير اقتصادية: مشكلة مصر هى الفساد

EgyptEconMoney
عمرو عادلي
ثمة قناعة راسخة لدى قطاعات عريضة من المصريين تفيد بأن الفساد الإدارى والمالى الذى يشوب الكثير من الممارسات الحكومية هو العامل الرئيسى وراء غياب التنمية والأداء الاقتصادى المتردى فى مصر طيلة العقود الماضية، وتتوزع هذه القناعة بين اقتصاديين ورجال أعمال ورجال سياسة وإعلاميين وفى أوساط المواطنين العاديين، ويقصد بالفساد هنا استغلال السلطة العامة لتحقيق منافع خاصة، وطبقا لهذا الرأى فإن الفساد يكلف الاقتصاد كثيرا لأنه يقلل من الحافز للاستثمار ويرفع تكلفة أى عمل اقتصادى بالإضافة لما يتسبب فيه من ضعف فى قدرة الدولة على إنفاذ القانون وضياع للثقة بين المواطن وممثلى السلطة، الذين غالبا ما يستغلون مواقعهم لتحقيق منافع شخصية مباشرة. فهل يكون الفساد الحكومى حقا هو المسئول الأول عن تردى سجل مصر التنموى فى العقود الماضية؟

للإجابة عن هذا السؤال تم اللجوء لقاعدة بيانات البنك الدولى الخاصة بالحكم الرشيد والمعروفة باسمgovernance matters index، وهو مؤشر مركب يقوم على احتساب متوسطات لمؤشرات أخرى عن حكم القانون ومكافحة الفساد وحماية حقوق الملكية وغيرها، ويتميز هذا المؤشر بأنه جامع لأغلب المؤشرات الأخرى عن هذه الظواهر ما يعطيه مزية الإلمام بأكبر عدد ممكن من الدراسات والإحصاءات على اختلاف منهجيتها ونطاقها والجهات القائمة بها. ويقدم مؤشر البنك الدولى تقييما عن مدى السيطرة على الفساد فى كل دولة، ويكون التقييم بنسبة مئوية كلما ارتفعت واقتربت من ١٠٠٪ كانت الدولة أقل فسادا والعكس بالعكس، وسنعرض فى الفقرة المقبلة لأرقام مقارنة عن مؤشرات السيطرة على الفساد فى عدد من الدول النامية والاقتصادات الصاعدة بما فيها مصر فى الفترة ما بين ١٩٩٦ و٢٠١٣ ثم ستجرى مقارنة هذه المؤشرات بالأداء الاقتصادى لكل دولة متمثلا فى معدل النمو السنوى (١٩٩٠ــ ٢٠١١)، والتكوين الرأسمالى الإجمالى كنسبة من الناتج (١٩٨٩ــ٢٠١٢)، والذى يعتبر مؤشرا عن الاستثمار.
كان الرقم الذى سجلته مصر حول السيطرة على الفساد متوسطه ٤٠.٦٢٪ فى الفترة بين ١٩٩٦ و٢٠١٣، وهو رقم أعلى من الصين (٣٨.٥٪) وإندونيسيا (٢٣.٥٣٪) والهند (٣٧.٤٣٪) وفيتنام (٣٢.٨١٪) فى الفترة ذاتها، أى أن مصر طبقا لمؤشر البنك الدولى أقل فسادا من هذه الدول، وسجلت بلدان كتركيا (٥١.٩٪) والبرازيل (٥٧.٢٨٪) وتونس (٥٥.٤٤٪) مؤشرات أفضل من مصر بمعنى أنها تعتبر أقل فسادا.
من ثم هل يمكن ربط مؤشرات الفساد هذه بالأداء الاقتصادى حتى نقطع بالصلة السببية بين الفساد والتنمية؟ فلننظر إلى متوسطات معدل النمو الاقتصادى طبقا لبيانات البنك الدولى فى الفترة بين ١٩٩٠ و٢٠١١: سجلت الصين معدل نمو سنوى ٩.٩٢٪ وهو الأعلى عالميا، وسجلت فيتنام ٦.٩٢٪ سنويا فيما كان النمو فى إندونيسيا ٥.٠٩٪ وفى الهند ٦.١٤٪ فى الفترة ذاتها، وكلها بلدان أكثر فسادا من مصر طبقا لمؤشر البنك الدولى، وقد كان متوسط النمو فى مصر ٤.٥٪ فى ذات الفترة. ومما سبق يظهر أن العلاقة بين الفساد والنمو الاقتصادى ليست ميكانيكية أو مباشرة.
وينطبق الأمر نفسه على معدلات الاستثمار مقاسة بالتكوين الرأسمالى الإجمالى ففى الصين كانت النسبة ٤١.٧٤٪ وفى فيتنام ٣١.٢١٪ وفى إندونيسيا ٢٦.٥٨٪ وفى الهند ٢٩.٨٩٪ مقارنة بـ١٩.١٦٪ فى مصر، وكانت النسب فى البلدان الأقل فسادا أشد انخفاضا منها فى البلدان الأكثر فسادا ففى تركيا كان معدل التكوين الرأسمالى ٢٠.٦٣٪ وفى البرازيل ١٧.٨٩٪ وفى تونس ٢٤.٥٣٪ فى نفس الفترة.
إذن فالقناعة الراسخة ليس فحسب لدى المصريين بل التى يتم الترويج لها من البنك الدولى نفسه وغيره من المؤسسات المالية العالمية حول الفساد كونه السبب الرئيسى وراء غياب التنمية لا تصمد كثيرا أمام مضاهاة بعض الأرقام والمؤشرات. إن هذا بالطبع ليس مبررا للتسامح مع الفساد أو دعوة للتقاعس عن مقاومته أو تقليلا من آثاره السياسية والاجتماعية أو من تكلفته الاقتصادية إنما هو محاولة لوضع الأمور فى نصابها الصحيح، وذلك لأن الأرقام تشى بأن الكثير من البلدان تمكنت من تحقيق معدلات نمو واستثمار مرتفعتين على الرغم من استشراء الفساد بدرجة أشد مما هو قائم فى مصر، وهو ما يشير إلى أن هناك عوامل أخرى أكثر شمولا من الفساد يمكن لها أن تفسر لنا تواضع الأداء الاقتصادى المصرى فى الفترة الماضية. ويأتى فى مقدمة هذه العوامل السياسات العامة فى جوانب كالتعليم والرعاية الصحية والحماية الاجتماعية ودور الدولة المباشر فى الاستثمار، وهى مسائل لا يمكن تفسيرها بانتشار الفساد إذ إنه على الرغم من الفساد قد يكون عائقا أمام لعب الدولة لدور فعال فى هذه المجالات إلا التجارب الآسيوية المذكورة تظهر أن ثمة مساحة لتحقيق إنجازات ولو بالتعايش مع معدلات فساد مرتفعة.
إن وراء المبالغة فى تحميل الفساد وزر غياب التنمية فى بلدان عديدة من العالم ومن ضمنها مصر أجندة فى غاية المحافظة لا ترى عيبا فى تصميم السياسات العامة ذاتها ولا فى عمل مؤسسات الدولة وانحيازاتها الاجتماعية والاقتصادية ولا فى القيود التى يفرضها دمج اقتصادات هامشية كالاقتصاد المصرى فى النظام الاقتصادى العالمى، وكلها ملامح للنموذج النيوليبرالى، الذى تم كانت له الغلبة طيلة العقدين الماضيين على أقل تقدير، بل تحصر الإشكال كله فى «سوء التطبيق» أو فى «سوء استخدام السلطة» وكأن النموذج بأسسه النظرية وتجلياته فى السياسات العامة منزه عن النقد.