Site icon IMLebanon

عزوف متزايد عن الوظيفة الحكومية في سوريا

SYriaMinistryFinance
مروان أبو خالد
كان الحصول على وظيفة حكومية حلماً كبيراً بالنسبة إلى غالبية السوريين، ليس لأن راتبها يكفي لمعيشة لائقة، بل لأنها تمثل الحل الوحيد للهروب من شبح البطالة، نظراً إلى التراجع المتزايد في فرص العمل التي تقدمها القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية.
وتشير الإحصاءات الحكومية إلى وجود 2.5 مليون موظف حكومي من أصل مجموع القوى العاملة السورية البالغ 6 ملايين، بكتلة رواتب وأجور تصل إلى 316.5 مليار ليرة (1.2 مليار دولار) في موازنة العام 2015. واللافت في الأمر أن معظم هذه العمالة الحكومية هي بطالة مقنعة، فنسبة الموظفين الذين يحضرون إلى وظائفهم في سوريا لا تتجاوز 30 في المئة، والبقية عبارة عن عمالة وهمية تدفع الحكومة رواتبهم من دون بذلهم لأي جهد، في حين لا يتجاوز معدل العمل اليومي للموظفين قيد العمل الـ22 دقيقة عمل في اليوم من أصل 8 ساعات مدة الدوام الرسمي، بحسب أرقام رئاسة الوزراء العام الماضي، فهل يمكن اعتبار ذلك دلالة على رحمة الحكومة لشعبها، وتحولها لمؤسسة خيرية تقدم رواتب بالمجان لأناس لا يعملون إطلاقاً، أم أن أبعاداً أخرى معقدة تقف وراء هذه الظاهرة؟

هذا التضخّم في أعداد موظفي قطاع الدولة يجد تفسيره النظري لدى المفكر مهدي عامل في كتابه المنشور بعد وفاته “في قضايا التربية والسياسة التعليمية”، إذ يعتبر أن الدولة الكولونيالية (كلبنان وبقية بلدان العالم العربي) لا تمارس فقط دوراً سياسياً، بل تعمل كجهاز بيروقراطي يمتص القوى المنتجة التي لا يمكن للإنتاج الاجتماعي أن يستوعبها، ويحولها بالتالي إلى مجرد عمالة إدارية غير منتجة، وتتحول الدولة إلى جهاز تنفيعات اجتماعي”. وهذا ما ينطبق على الحالة السورية، فطبيعة الطبقة الممسكة بالسلطة ريعية، أي أنها ليست رأسمالية منتجة صناعية أو زراعية، وبالتالي هي لا تمثل مصالح المنتجين، وتسعى لسحب الكتلة الأكبر من العمالة إلى وظائفها الحكومية الإدارية والخدمية لكي تخلق بهم قاعدتها الاجتماعية الصلبة، وتعطل بالتالي أي تغير اجتماعي ممكن، لكون معيشة الملايين باتت معتمدة فحسب على الراتب الحكومي.
“كثيرون من الموظفين يعتبرون تغيير النظام تهديداً للقمة عيشهم”، حسب الباحث في “مركز دراسات الفكر والشأن العام” مازن علي، الذي يعتبر أن التضخم في أعداد الموظفين ليس إلا تعبيراً عن “شمولية الدولة وابتلاعها للمجتمع”. يضيف: “يدخل الموظفون للحفاظ على وظائفهم في صراع بقاء خوفاً من البطالة التي تعد 3 مليون عاطل عن العمل حالياً. لكن لا يكون البقاء في الوظيفة للأصلح، بل للأكثر فساداً وانصياعاً وقابلية للتدجين”.
آلية التدجين الحكومي هذه لا تفعل فعلها مع جميع الموظفين، فالمعارضون منهم للتوجهات الحكومية مهددون بالتسريح التعسفي لمجرد امتلاكهم لرأي سياسي مخالف لتوجهات الحكومة، أو لمجرد وجودهم في مناطق محاصرة يصعب الخروج منها إلى مكان العمل. ولا تقتصر حالات التسريح التعسفي على المناطق التي خرجت عن سيطرة الحكومة، إذ امتدت إلى المناطق التي ما زالت تحت نفوذها. ففي 13 من الشهر الجاري طرد نحو 30 موظفاً من مدينة السلمية نظراً لانتمائهم إلى المعارضة، وقبل ذلك طرد العشرات من موظفي محافظة السويداء، ولا توجد تقديرات دقيقة عن أعداد المسرحين تعسفاً لكنهم تجاوزوا الـ7 ألاف موظف خلال العام الماضي، وفقاً للأرقام الحكومية.
التهديد بالتسريح التعسفي لم يردع أعداداً متزايدة من الموظفين عن التعبير عن سخطهم المتزايدة جراء انهيار أحوالهم المعيشية، فبرغم الزيادة بمقدار 4 ألاف ليرة (16.6دولار) على الرواتب، والتي باتت توزع ابتداء من الشهر الجاري، فإنها تكاد لا تذكر، وهي أشبه بإبرة مخدرة فقط لكتلة الموظفين الساخطة على إجراءات التقشف ورفع الدعم عن مختلف السلع الأساسية، إذ ارتفع الحد الأدنى للأجور إلى 17700 ليرة (73.7 دولار) فحسب بعد الزيادة، في وقت تحتاج الأسرة السورية إلى دخل لا يقل عن 90 ألف ليرة (375 دولار) للعيش كفاف يومها.
ويقول أبو أحمد وهو موظف حكومي، لـ “المدن”: “الراتب لا يكفي لأكثر من أيام معدودة. فالشهر الماضي ونتيجة سوء شبكة الكهرباء، احترق منظم الكهرباء لدي في المنزل، واضطررت لشراء منظم جديد بسعر 29 ألف ليرة (120.8 دولار)، وهو يفوق مقدار راتبي بأكمله بحوالي 4 ألاف ليرة (16.6 دولار)”.
أما رامي وهو خريج كلية الحقوق فيرى أنّ “الوظيفة الحكومية فقدت سحرها، وأعداد متزايدة من الشباب باتوا يفضلون الهجرة والعمل خارجاً، فأي عمل في الخارج أجره يعادل أضعاف ما قد يتقاضاه موظف حكومي في الداخل. كما أن مسابقات التوظيف الحكومية والتي قلت نسبياً خلال الأزمة، لا تشمل سوى أعداد محدودة من الوظائف لا تتجاوز أحياناً عدد أصابع اليد، وغالباً ما تكون الأسماء المقبولة محسومة سلفاً، لهذا نشهد الآن عزوف لأعداد متزايدة من السوريين عن التقديم للوظائف الحكومية بعدما كانوا يتهافتون للحصول عليها، والحكومة تخسر بهذا مزيداً من الفئات الداعمة لها، لأن الموظف بات يشعر أنه ليس إلا أداة تعطيه الحكومة راتباً هزيلاً، ليمتصه تجارها مباشرة في السوق عبر رفع الأسعار”.