Site icon IMLebanon

الدولرة: قيد على السياسة النقدية

DollarCongress
علي فرحات
الدولرة في المفهوم العام هي عملية تتبنى من خلالها دولة ما عملة دولة أكثر استقراراً بشكل رسمي وقانوني. ونظراً إلى كون العملة الاميركية سجلت تاريخياً أكثر نسبة استقرار وكونها الاكثر تداولاً وبما أن أول عملية تبنِي نقدية قد ترجمت بالنسبة للدولار الأميركي، لذا عرف التحويل إلى أي عملة غربية مستقرة، كاليورو الاوروبي أو الين الياباني، بالدولرة.
الدولرة نوعان: الكاملة والجزئية
الدولرة الكاملة تتمثل باتخاذ الحكومة قرارا رسميا يقضي باستخدام العملة الغربية في كل الصفقات بما فيها الديون الحكومية والخاصة. في هذا النوع من الدولرة، يتقاضى الموظفون رواتبهم بالدولار وتعقد صفقات المستهلكين العامة بالدولار. وباتباع هذا التحويل، يجب على البلدان أن تحدد النسبة التي يجب أن تحول وفقها الديون القديمة، العقود والفوائد المالية إلى العملة الجديدة.
الدولرة الجزئية تعرف أحيانا بتصريف العملة، وهي الأكثر شيوعا. معظم البلدان ذوي الأسواق الحديثة النشوء تمارس الدولرة بشكل جزئي، وبعضها يمارسها بتطرف أكثر من الآخرين. تنتشر الدولرة الغير الرسمية أو الجزئية عندما تصبح قيمة العملة المحلية متقلبة جدا وهكذا يعتمد على الدولار بشكل اكبر للقيام بعمليات الشراء.
الأسباب الأساسية للدولرة
يأتي قرار الدولرة في بلد ما بعد معاناته من تضخم مالي وانخفاض قيمة عملته. في هذه الحالة، يبدأ المصرف المركزي بتأييد أخذ فوائد أعلى كوسيلة لحماية العملة من الهبوط، وبالتالي تجلب الأعمال بالدولار للحصول على فوائد أقل. عندما تتخذ أية دولة القرار بالدولرة فإنها تتبنى السياسة المالية لمصرف الولايات المتحدة المركزي، محررة نفسها من دوامة انخفاض قيمة العملة والتضخم المالي.
فمن الجدير بالذكر، أن الدولرة كنظام لتبادل العملات، لا تضمن دائما الاستقرار والنمو الإقتصادي في البلاد، لأن ذلك متعلق بعوامل عديدة مثل: نسبة العجز في ميزانية الدولة، قوة القطاع المصرفي وحجم المدخرات الخارجية وهذه العوامل تتراوح بين بلد وآخر.
التأثيرات على السياسة النقدية
الدولرة تحرم الدولة من قدرتها على استخدام السياسة النقدية. فالدولة – كل دولة – تملك عدداً من أدوات السياسات لتنفيذ أهدافها، مثل السياسة المالية، والسياسة التشريعية. ولكن هناك أيضاً السياسة النقدية. ومع الدولرة تفقد الدولة حريتها في استخدام هذه السياسة. ولا يقتصر الأمر على حرمان الدولة من حق استخدام سياستها النقدية بل أنها تخضع في الواقع للسياسات النقدية لدولة العملة المتداولة. والأخذ بالدولرة ليس فقط تنازلاً عن أحد السياسات الوطنية بل هو خضوع في نفس الوقت لسياسة نقدية أجنبية.
الدولرة إذا هي من أهم القيود التي تعيق السياسة النقدية وهي تطال ثلاثة أبعاد من النشاط الاقتصادي الخاص والعام (i) الدفع (التبادلات النقدية)، (ii) التمويل (ما يعرف بالدولرة المالية والتي تطال الإيداعات النقدية والمالية وديون الأفراد والمؤسسات الخاصة والعامة) و(iii) تثبيت أسعار السلع والخدمات والرواتب والأجور بالعملة الأجنبية. وان الاستبدال التدريجي للعملة الوطنية بالعملة الأجنبية في الأبعاد الثلاث المذكورة أعلاه تشكل ما يعرف بالدولرة.
تشكل دولرة الاقتصاد عاملاً أساسياً في رسم السياسة النقدية بشكل عام وبضبط التضخم بشكل خاص أي أنها تحد من خيارات صانعي القرارات المولجين تحديد هذه السياسة. عادة ما يتم اعتماد استراتيجيتان لضبط التضخم: الأولى ترتكز على تحديد الكتلة النقدية, والثانية تعتمد على تثبيت سعر الصرف. بحسب النظرية الكلاسيكية للتيار النقدي فإن تحديد الكتلة النقدية له تأثير مباشر على ضبط نسبة التضخم. وذلك من خلال تثبيت نسبة النمو للمعروض النقدي. وباعتبار وجود علاقة مستقرة بين الكمية النقدية المتوفرة في الاقتصاد، المستوى العام للأسعار والناتج المحلي علما أن هذا الأخير مرتبط بشكل أساسي ببنية الاقتصاد، فإن التضخم لا يمكن أن ينتج إلا عن نمو الكتلة النقدية. إذاً، انطلاقاً من هذه الفرضيات، وبغض النظر عن مشكلة الدين السيادي، نستنتج أن اعتماد الدولرة تشكل عائق أساسي أمام السياسة النقدية، وذلك كون قسم كبير من المعروض النقدي خارج عن سيطرة السلطات المسؤولة عن وضع توجهات السياسة النقدية.
اما بالنسبة لضبط التضخم المرتكز على تحديد سعر صرف العملة الوطنية والمعتمد على رسم مسبق لمسار العملة، فلا تشكل الدولرة في هذه الحالة عائقا أمام استخدام أدوات السياسة النقدية وهذا بالضبط ما اعتمده البنك المركزي اللبناني بدءً من شهر تشرين الثاني في سنة 1998، مثبتاً سعر صرف الليرة مع هامش تقلبّ لا يزيد عن 0.5% من خلال تأمين التوازن في الأسواق النقدية إما عبر شراء وبيع العملات، أو تعديل نسب الاحتياط بالعملة الأجنبية أو تعديل معدلات الفوائد.
للدولرة أيضاً تأثيرات سلبية على استقرار النظام المصرفي، أي أنها تزيد من انكشاف المصارف على الأزمات. وبما أن عمل المصارف يعتمد على الوساطة بين المودعين على المدى القصير والمقترضين على المدى الطويل، فهي تتحمل عبء مخاطر السيولة في حال عجز المقترضين على تسديد الديون المتوجبة. تقوم المصارف بإدارة هذه المخاطر من خلال الابقاء على قسم من موجوداتها بالعملة والاستثمار في سندات الخزينة نظراً لسهولة تحويلها إلى سيولة. وهذا الأمر يحد من قدرة البنك المركزي على التدخل لضخ السيولة بالعملة الأجنبية في هذه المصارف في حال واجهت أزمة سيولة ناتجة عن سحب الودائع: لأن تدخل البنك المركزي مرتبط بحجم ودائعه بالعملة الأجنبية.
إضافة إلى ذلك، تواجه المصارف خطر الإفلاس بسبب المخاطر المرتبطة بانهيار العملة. ففي حال انهيار العملة، ترتفع قيمة الودائع (المطلوبات) بالعملة الأجنبية مقابل الموجودات بالعملة الوطنية، الأمر الذي يعرض هذه المصارف للإفلاس. وفي حال ارادت المصارف اتباع سياسة حماية، فتقوم بتسهيل القروض بالعملة الأجنبية لكنها تكون قد عرضت المقترضين لمخاطر تدهور العملة خاصة أنهم يتقاضون رواتبهم بالعملة الوطنية. يمكن القول إذا أن خطر الإفلاس المرتبط بسعر الصرف يصبح غير مباشر، أي أن كشف المقترضين على مخاطر تقلب العملة، يسيء إلى نوعية القروض المصرفية وبالتالي الى تماسك النظام المصرفي.
ختاما، إنّ الدولرة باتت عملية دائمة.، فبعد أن تتبنى الدولة الدولار بشكل رسمي، تصبح محاولة العودة إلى العملة المحلية مضعفة لأي قرار يتخذ و مهددة بإثارة اضطرابات أكثر… سوف يكون من الصعب تقييم تأثير الدولرة الكاملة ما لم تعش معظم البلدان تحت تأثير الدولار لعدة قرون على الأقل. إن ظاهرة الدولرة ساهمت في تقوية الدولار ذاته وجعلت منه عملة عالمية وهناك من يعتقد أن هذه الظاهرة ليست إلاّ خطة أمريكية لغزو العالم بلا جيش أو سلاح، فالتوسع في استعمال الدولار انتقص من سيادة الدول الفقيرة وسلب من البنوك المركزية قدرتها على التحكم في نظام النقد المحلي. ولأن الثقة بأي عملة مصدرها الثقة بالاقتصاد الأم أصبح مصير العديد من الدول معلقاً باستقرار الاقتصاد الأمريكي ذاته.