Site icon IMLebanon

بطء النمو يتحدى أوروبا والتحولات تحرجها

نور الدين الفريضي

 

يستعيد الاتحاد الأوروبي استقراراً نسبياً، على الصعيد الاقتصادي، مكّن من استعادة النمو في شكل تدريجي بعد تحكّم الدول الأعضاء بمساعدة المصرف المركزي في أزمة الديون السيادية وتحصين عملة اليورو. ويجتاز من ناحية أخرى، أزمة سياسية غير مسبوقة نتيجة تدفّق اللاجئين وتفاقم أخطار الإرهاب. وتتوقع المفوضية الأوروبية أن تسجل معدلات النمو الاقتصادي زيادة محدودة من 1.4 في المئة في 2014، إلى 1.6 في المئة في 2015، ثم 1.8 في المئة في 2016، و1.9 في المئة في 2017. ونتيجة استعادة النمو، ستواصل معدلات البطالة انخفاضها لكن بوتيرة بطيئة.

إلا أن التغيرات الكبيرة التي تشهدها الساحة الأوروبية، ناجمة عن الأوضاع الاقتصادية والتداعيات الاجتماعية الواسعة التي خلفتها الأزمات المالية وأخطار خروج اليونان من منطقة اليورو، والأزمة المالية التي استمرت أربع سنوات من 2008 إلى 2012، والجهود المضنية التي بذلتها حكومات دول الاتحاد للحؤول دون انهيار الموازنات العامة.

لكن التغيرات يغلب عليها طابع الأزمة السياسية. فما إن خرجت منطقة اليورو من أزمة اليونان بفعل الموارد المالية الهائلة التي ضخّتها المفوضية الأوروبية والمصرف المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، لإنقاذ اليونان ومن قبلها إسبانيا والبرتغال وإرلندا من الإفلاس، حتى وجدت أوروبا نفسها تواجه أزمة أخرى غير مسبوقة تتمثل في توافد مئات الآلاف على شواطئها الجنوبية والشرقية.

وتدفّق أكثر من مليون من طالبي اللجوء والهجرة الاقتصادية على دول الاتحاد منذ مطلع 2015، غالبيتهم دخلت من طريق البحر انطلاقاً من شواطئ تركيا. واكتشف الأوروبيون ضعف آليات حماية الحدود الخارجية لدولة مأزومة مثل اليونان، التي تحولت إلى بوابة لتدفق المهاجرين بمعدلات غير مسبوقة بين سبعة آلاف و10 آلاف شخص يومياً. الوافدون، في غالبيتهم، فروا من ويلات الحرب في سورية والعراق، يليهم الفارون من النزاعات في أفغانستان والصومال والبؤس المادي في عدد من الدول الأفريقية.

وراقب الأوروبيون طوال الخريف وبداية فصل الشتاء، مشاهد الطوابير الممتدة للاجئين في المعابر الترابية بين اليونان ومقدونيا وصربيا وهنغاريا وكرواتيا، وجميعهم يسابقون عقارب الساعة من أجل بلوغ النمسا، ومن ثم ألمانيا التي وصلها أكثر من 900 ألف شخص، ثم السويد. وتشدّدت دول أوروبا الشرقية ورفضت فتح حدودها أمام اللاجئين، على رغم الدعوات الرسمية. ومنحت فرنسا وبريطانيا فرصاً محدودة لدخول اللاجئين. وكانت النتيجة الأخرى غير المتوقعة والناجمة عن تشدّد الدول الشرقية، أن فرضت دول مراقبة الحدود الداخلية، وبالتالي علّقت العمل بمعاهدة شنغن حول حرية تنقل الأشخاص.

 

مركل واعتداءات باريس

وانفردت المستشارة الألمانية أنغيلا مركل، بالدور الريادي والأخلاقي على صعيد الاتحاد ككل، لأنها وقفت بحزم وشجاعة ضد اليمين المتطرف، الذي حاول الاعتداء على مخيمات اللاجئين، ورفضت نداءات حلفائها من اليمين المحافظ، داخل ألمانيا وفي صفوف الاتحاد، من أجل إقفال الحدود. وحظيت بتقدير على الصعيد العالمي، وصنّفتها مجلة «تايم» الأميركية شخصية العام 2015. وكتب كبار المعلقين الأوروبيين، أن «من حسن حظ أوروبا» أن مركل تتولى قيادة ألمانيا، وأن ألمانيا في وضع اقتصادي واجتماعي وسياسي يؤهلها للاضطلاع بالدور الريادي والتاريخي. لكن الضغوط التي لم تثنِ مركل، فعلت فعلها في مزاج الرأي العام الأوروبي وفي خلوة صناديق الاقتراع. فاختار البولنديون غالبية محافظة جداً ومناهضة للمهاجرين، على غرار الحكومة الهنغارية ونظيرتها في سلوفاكيا أو تشيخيا.

وازداد قلق الرأي العام على إثر اعتداءات باريس في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، والتي نفّذها شبان أوروبيون يتحدرون من عائلات مسلمة مغاربية. وقال الرئيس فرنسوا هولاند، أنهم «تدربوا في سورية وأعدوا عدتهم في بلجيكا ونفذوا الاعتداءات في باريس». وهذا المعطى الخطير دفع فرنسا إلى تعليق العمل بمعاهدة شنغن. وغطت اعتداءات باريس بسرعة على محنة مئات آلاف المهاجرين واللاجئين الذين ينامون في مخيمات البلقان وداخل الاتحاد. وأصبح الإرهاب الهاجس الأكبر. وتجسّدت تأثيراته المباشرة في تعزيز اليمين المتطرف في فرنسا، إذ قفزت الجبهة الوطنية بزعامة مارين لوبان، إلى المرتبة الأولى في قائمة الأحزاب السياسية للمرة الأولى في تاريخ فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

ويرجح أن تطاول التغيرات التي شهدتها فرنسا، شركاءها في الاتحاد في اتجاه تنامي أحزاب متشدّدة، سواء في اتجاه اليمين أو اليسار. وهو أيضاً انعكاس لاستفحال الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تنخر الفئات الشعبية التي تعبت من تحمّل تبعات العولمة وتنافسية الاقتصادات ذات الكلفة الاجتماعية الضعيفة.

وبدت السوق الأوروبية عاجزة عن الاستفادة من تراجع أسعار الطاقة والمواد الخام من ناحية، وانخفاض قيمة صرف اليورو من ناحية أخرى. ورأت المفوضية الأوروبية في تقرير الخريف حول التكهنات الاقتصادية، أن «تأثير العوامل الإيجابية محدود، بينما يتزايد تأثير التحديات الجديدة مثل تراجع أداء الاقتصادات الناشئة والتجارة العالمية والتوترات الجيوسياسية».

 

نمو معتدل

لكن التحسّن الطفيف الذي تشهده سوق العمل الأوروبية يمكّن من استمرار النمو، وإن بنسبة ضعيفة في 2016 و2017. ويعتقد المفوض الأوروبي لشؤون عملة اليورو والحوار الاجتماعي فالديس دومبروفسكي، أن التكهنات الاقتصادية تشير إلى أن «اقتصاد منطقة اليورو ينمو باعتدال. ويستند في شكل أساسي، إلى عوامل موقتة مثل انخفاض أسعار الطاقة وتراجع صرف اليورو، والسياسات النقدية الإيجابية التي سلكها المصرف المركزي الأوروبي. وفي المقابل، فإن منطقة اليورو قد صمدت أمام التأثيرات الناجمة عن التغيرات في الساحة الدولية، بخاصة تراجع الطلب العالمي».

ويستنتج دومبروفسكي «وجوب مواصلة تصحيح أوضاع الموازنات العامة وتشجيع الاستثمار والإصلاحات، التي من شأنها تعزيز التنافسية»، تحسباً لتداعيات التغيرات الجارية في مناطق الجوار وتراجع النمو في الأسواق الناشئة. ويعود استمرار النمو وإن بوتيرة ضعيفة، الى أسباب منها أهمية الطلب الداخلي في السوق الأوروبية الذي قد يتواصل في 2016 و2017. لكن معدلات النمو المتوقعة ستكون محدودة بحكم محدودية حجم الاستثمار والحاجة إلى مزيد من الإصلاحات.

ويــرى المــــفــوض الأوروبــــي للشؤون المالية والاقتصادية بيار موسكوفيسي، أن «نقص الاستثمار والإصلاحات الاقتصادية الضرورية لدفع النمو وخلق وظائف العمل وارتفاع مستوى الديون العامة والخاصة، تمثّل تحديات كبيرة تقتضي سياسات حازمة تأخذ في الاعتبار تداعيات التغيرات الجارية في الساحة الدولية».

 

سوق العمل

وعلى الصعيد الاجتماعي، تتحسّن سوق العمل لكن ببطء. وقد يتواصل التحسّن في الأسواق التي شهدت إصلاحات تعزز آليات المرونة. ويُتوقَّع أن يرتفع مستوى إحداث الوظائف في منطقة عملة اليورو بنسبة 0.9 في المئة في 2015 و2016، وبنسبة واحد في المئة في 2017. ونتيجة لذلك، ستتراجع معدلات البطالة نسبياً من 11 في المئة في العام الجاري إلى 10.6 في المئة في العام المقبل، و10.3 في المئة في 2017 في منطقة اليورو.

وعلى الصعيد المالي، يُتوقَّع أن يتواصل اتجاه تصحيح أوضاع الموازنات العامة، فيتراجع العجز العام في منطقة اليورو في 2015 إلى اثنين في المئة، نتيجة سياسات التقشف وخفض الإنفاق.

وتواصل دول الاتحاد تقليص سياسات الإنفاق على رغم انتقادات النقابات العمالية وأوساط أحزاب اليسار. ويُرجَّح أن ينخفض مستوى العجز العام إلى 1.5 في المئة في 2017، فيما تظلّ نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي مرتفعة على رغم تراجعه من 94.5 في المئة من الناتج المحلي الخام إلى 91.3 في المئة في 2017. وفي المقابل، فإن معدل العجز العام في الاتحاد ككل (28 دولة) سينخفض من 2.5 في المئة من الناتج هذا العام، إلى 1.6 في المئة في 2017، بينما سيكون معدل الدين العام للاتحاد ككل بين 87.8 في المئة هذا العام و85.8 في المئة في 2017.

وأدى تراجع أسعار الطاقة والمواد الخام إلى انخفاض مستوى التضخم، فتراجع إلى درجة سلبية في خريف 2015. لكن يتوقع أن يرتفع من صفر في المئة هذا العام إلى واحد في المئة في 2016 و1.6 في المئة في 2017.

وسجلت الصادرات الأوروبية تراجعاً منتظماً العام الحالي، نتيجة تقلّص الاقتصادات الناشئة، خصوصاً الصين. لكن يتوقع أن تستعيد بعض حيويتها العام المقبل.