Site icon IMLebanon

الهند .. الجفاف يهدد بضرب الاقتصاد وتفجير حروب مياه في البلاد

India-Drought
فيكتور ماليت

بيتي خان، شخصية ذات حضور مهيمن بين حشد يتجمع كل مساء حول بئر القرية القديمة في جوسياري. هذه المرأة البالغة من العمر 50 عاما تشتعل بالطاقة والنشاط أمام الزائرين القادمين إلى هذه المنطقة المنكوبة بالجفاف شمالي الهند، للمطالبة بتوفير المياه التي فشل سياسيو البلاد -من رئيس الوزراء، ناريندرا مودي، ومن يليه- في توفيرها.

تقول: “إن أزمة المياه حادة هنا. إنها مشكلة كبيرة. رائحة الأشخاص هنا فظيعة لكن لا يمكنهم الاستحمام يوميا. وبعض الأشخاص لا يغتسلون لأربعة أيام. ولا أحد يريد أن تتزوج ابنته من شخص من هذا المكان لأنهم يعتقدون أن بناتهم سوف يلاقين حتفهن جراء حمل المياه على رؤوسهن طوال حياتهن”.

البئر الكبيرة المحاطة بالطوب بالقرب من ينبوع ماء جاف، يقول القرويون إنها بنيت قبل 300 عام، هي البئر الوحيدة التي تنتج مياها عذبة لجوسياري وسكانها البالغ عددهم 3500 نسمة. والطوب الموجود على امتداد حافة البئر مغطى بالحبال التي تستخدم لرفع الماء من عمق 50 قدما باستخدام القدور. والآبار القريبة التي تستخدم فيها المضخات اليدوية تنتج مياها مالحة جدا حيث تستخدم في معظمها لغسيل الأواني.

يقول راجيش كومار تيواري، الذي يزرع القمح والحمص: “في المناطق المجاورة لي، لا بد أن يكون هناك ما لا يقل عن 18 إلى 20 شخصا لا يمكنهم الزواج بسبب أزمة المياه. ليس هناك أي مياه ري هنا، ولا تأتي أي أنابيب من آبار أو قنوات (…) المزارعون في هذه المنطقة على وشك الموت جوعا. إنهم يضطرون إلى الانتحار”.

كانت هذه المنطقة التي تعرف باسم بندلخاند، التي تمتد عبر الحدود بين أُوتار برادش وماديا برادش حول الحافة الجنوبية من سهل الجانج، قد تعرضت منذ فترة طويلة لحالات دورية من الجفاف، وقد استجاب السكان من خلال عمليات هجرة جماعية للبحث عن عمل في السعودية ودبي، أو ضواحي نيودلهي.

الهند ليست وحيدة في مواجهة نقص المياه. لكن مع أكثر من شهرين من الارتفاع المنتظر في درجات الحرارة في الصيف، قبل الموعد المقرر لوصول الأمطار الموسمية، تثبت مشكلات المياه الأخيرة مدى خطورة أزمة المياه المزدوجة: نقص حاد في الأمطار الموسمية بعد موسمين دون المتوسط، ومشكلة نضوب مياه مزمنة وحادة بشكل متزايد تؤثر أصلا في الزراعة والحياة الحضرية لسكان الهند البالغ عددهم 1.3 مليار نسمة.

أعلنت عشر من ولايات الهند الـ29، بدءا من أوتار برادش في الشمال إلى كارناتاكا في الجنوب، حالات جفاف هذا العام. وجفت السدود والقنوات والأنهار في بعض الأماكن، ويجري ضخ المياه الجوفية في أجزاء من الهند بمعدل ينذر بالخطر، عمل على تخفيض مخزون المياه بشكل كبير وحاد.

ولأن معدل النمو الاقتصادي في الهند البالغ أكثر من 7 في المائة لا يزال يتجاوز النمو الاقتصادي في الصين، اقتصرت الأضرار الناجمة عن حالة الجفاف الأخيرة حتى الآن على المزارعين. لكن على مدى أطول، من المحتمل أن يؤثر سوء إدارة المياه في الصناعة والاقتصاد الأوسع.

يقول هيمانشو تاكار، الذي يدير جماعة ضغط تدعى “شبكة جنوب آسيا للسدود والأنهار والناس”: “ربما يكون أسوأ فصل صيف ستواجهه الهند في فترة ما بعد الاستقلال، لاسيما في وسط الهند”.

القضية السياسية

مثل هذه المخاوف لا تقتصر على المنظمات غير الحكومية. يقول شاشي شيكار، وهو وكيل في وزارة المياه الهندية: “لم تتفهم الطبقة السياسية ولا طبقة المثقفين أن أزمة المياه تواجهنا بالفعل الآن”.

ويحذر هو وغيره من المختصين من أن الصراعات -ليست فقط ما بين الدول بل أيضا بين الولايات داخل الهند- تتزايد بالفعل بسبب المنافسة على مياه الأنهار الشحيحة.

وكثيرا ما خاضت ولاية تاميل نادو وولاية كارناتاكا نزاعات طويلة حول مياه نهر كوفيري. في الشمال يستخدم أصحاب الأراضي من البنجاب، المحرضين من قبل حكومة الولاية، البلدوزرات لملء قناة غير مكتملة تأخذ المياه من نهر سوتليج جنوبا إلى هاريانا.

يقول أحد كبار المسؤولين في نيودلهي: “إنها أزمة الآن وإن لم نسيطر عليها، سنكون معرضين لخوض حروب مياه لعشر سنوات من الآن. ستشتعل ألسنة اللهب بين البنجاب وهاريانا في أي وقت”. في الواقع، أقدم ناشطون في ولاية هاريانا أخيرا على تخريب قناة وتزود نيودلهي بالمياه. يقول براهما تشيلاني، مؤلف كتب حول الصراع على المياه: “نحن لدينا حروب مياه بالفعل في الهند”.

وقد عملت المواسم السيئة، مع هطول أمطار في عامي 2014 و2015 أقل بنسبة تراوح بين 12 و14 في المائة عن المتوسط، على تكثيف الاهتمام بمشكلات المياه في الهند خلال موسم الجفاف الحالي.

في ولاية ماهاراشترا الأكثر تضررا في الغرب، توفر السلطات المياه العذبة لمنطقة ماراثوادا القاحلة باستخدام الشاحنات وحتى القطارات. في الأماكن الأكثر جفافا، حظرت السلطات التجمعات لأكثر من خمسة أشخاص حول نقاط الإمداد بالماء للحؤول دون اقتتال الأهالي. وفي عاصمة الولاية، مومباي، طالب القضاة بمعرفة مزيد حول “الإهدار الجنائي” للمياه في ملاعب الكريكيت بعد سماعهم نداء من ناشطين في مجال البيئة يدعو إلى نقل منافسات هذه الرياضة ذات الشعبية في الهند من الولاية.

على الجانب الآخر من البلاد في البنغال الغربية، اضطرت محطة كبيرة لتوليد الطاقة تعمل بالفحم في فاراكا، تعتمد في التبريد على المياه من نهر الجانج، إلى تعليق عملياتها التشغيلية الشهر الماضي بسبب عدم وجود مياه في القناة التي تصلها بالنهر.

ويتفاخر الناشطون الذي يشتكون من أن شركة الكوكا كولا تستخلص كثيرا من المياه الجوفية، بأنهم فرضوا إغلاق بعض المصانع، رغم أن الشركة المصنعة للمشروبات الغازية تقول إنها تسحب كمية ضئيلة فقط من المياه المستخدمة من قبل المزارعين وإنها علقت العمليات التشغيلية لديها في خمسة مصانع تعبئة لأسباب تتعلق بالكفاءة، توصف بأنها “الحد الأمثل من القدرة الإنتاجية”.

السبب والنتيجة

وحتى لو كان هطول الأمطار الموسمية سخيا كما هو متوقع عبر أنحاء الهند هذا العام، تبقى أزمة المياه موجودة في هذا البلد الذي من المتوقع أن يتجاوز الصين كأكثر دول العالم اكتظاظا بالسكان خلال عقد من الزمن.

وفقا لأرونابا جوش، الرئيس التنفيذي لمجلس الطاقة والبيئة والمياه، وهي مجموعة مختصة بالبحوث، كان الهندي العادي قادرا على الاستفادة من 5200 متر مكعب سنويا من المياه في عام 1951، بعد فترة وجيزة من الاستقلال عندما كان عدد السكان 350 مليون نسمة. وبحلول عام 2010 انخفض ذلك إلى 1600 متر مكعب، وهو مستوى يعتبر “مقلقا” بالنسبة للمنظمات الدولية. أما اليوم، فيبلغ نحو 1400 متر مكعب ويقول محللون إن من المرجح أن ينخفض إلى أقل من 1000 متر مكعب، التي هي مستوى “ندرة المياه”، خلال العقدين أو الثلاثة المقبلة.

وكما هي الحال في باكستان المجاورة، لا تكمن المشكلة في نقص المياه المطلق. في الواقع، مستوى هطول الأمطار في الهند مرتفع، وإن كان موسميا، والأنهار الشمالية تمتلئ أيضا بالثلوج الذائبة من جبال الهملايا. أما الأسباب الحقيقية وراء ندرة المياه في الهند فهي النمو السكاني السريع في البلاد وعدم كفاءة وسائل النقل فيها واستخدام المياه السطحية المخزنة في بعض السدود الكبرى، وزراعة محاصيل تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه، مثل الأرز وقصب السكر في مناطق جافة من قبل ملاك أراض أقوياء سياسيا، والفشل في السيطرة على الطلب على المياه بسبب الكهرباء المجانية والديزل المدعوم، المقدم إلى مئات الملايين من المزارعين لاستخدامه في تشغيل المضخات.

يقول شيكار: “كنا ننظر دائما إلى المشكلة من جانب العرض، وليس من جانب الطلب. كان هذا القطاع دائما في أيدي الموظفين التكنوقراط، لاسيما المهندسين في مجال الهيكلة. فهم يعرفون فقط كيفية التشييد والبناء (…) والشعور العام هو: لدينا كثير من المياه، وهي مجانية من حيث التكلفة ومن واجب الحكومة أن تقدم لي الماء”.

لم يكن الأمر فقط أن هناك تسريبا في القنوات وأن المزارعين يهدرون المياه المرسلة إليهم من قبل الدولة، بل يمكن لأصحاب الأراضي ضخ الكمية التي يريدونها من الآبار أيضا. ذكرت دراسة حديثة أجرتها المفوضية الأوروبية حول تشريعات المياه في الهند أن عدد الآبار الجوفية أو الآبار الأنبوبية ارتفع من بضع عشرات الآلاف في الستينيات إلى أكثر من 20 مليون بئر اليوم. وفي بعض أجزاء البنجاب أدى هذا إلى حدوث تراجع في مخزون الماء لأكثر من ثلاثة أقدام سنويا.

وتضخ الهند 230 مليار متر مكعب من المياه الجوفية، بحسب ما يقول التقرير -أكثر من أي دولة أخرى. وأكثر من 60 في المائة من الزراعة المروية في الهند، و85 في المائة من مياه الشرب فيها، تعتمد على المياه الجوفية.

ويعتقد شيام خادكا، من منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، أن المياه الجوفية في البنجاب هي الآن على بعد 400 قدم تحت السطح، أي أبعد أربعة أو خمسة أضعاف ما كانت عليه وتتطلب كثيرا من الطاقة لاستخراجها. ويقول: “يبدو الوضع وكأنه مرعب قليلا الآن من منظور المياه الجوفية عبر الهند. وهذا الوضع معروف أساسا لدى صناع السياسة، لكن الإرادة السياسية لتنظيم استخدام المياه الجوفية منخفضة جدا”.

وتظهر بيانات الحكومة، المتأخرة خمس سنوات، أن 839 منطقة من أصل 5723 منطقة إدارية في الهند كانت تعاني بالفعل الإفراط في استغلال المياه الجوفية عام 2011.

ويضيف جوش التغير المناخي إلى قائمة المشكلات التي تعانيها المياه. فليس فقط من المتوقع أن يصبح شمال الهند أدفأ بمقدار بضع درجات، ما يزيد من استخدام المياه، بل من المتوقع أن تصبح الأمطار أقل قابلية للتنبؤ.

خلف الكواليس، هناك اتفاق واسع النطاق، حتى ما بين المعسكرات المتنافسة من أنصار البيئة والحكومة الوطنية، حول معظم الخطوات التي يلزم اتخاذها لتفادي حدوث كارثة مياه في المستقبل -على الرغم من أن كثيرا من المسؤولين لا يزالون يميلون لتفضيل مشاريع ربط الأنهار المكلفة التي يعتبرها نشطاء البيئة مدمرة ولا هدف لها.

في ميزانية هذا العام وعد وزير المالية، آرون جايتلي، بمضاعفة دخل مئات الملايين من المزارعين بحلول عام 2022، وأعلن إنفاق 2.5 مليار دولار هذا العام لتسريع مشاريع الري المتأخرة.

سد الفجوة

يقول بعض المحللين إن الطلب على الماء ينبغي مراقبته من خلال تحديد سعر له في الوقت الذي يتم فيه تجديد “الصهاريج” المنسية والقديمة وأنظمة التخزين المحلية في البلدات والقرى. جنبا إلى جنب مع تلك التدابير، قد يحتاج المسؤولون أيضا إلى تخفيض التسرب من أنظمة القنوات سيئة الصيانة، وإيقاف زراعة المحاصيل العطشى مثل قصب السكر في الأماكن الجافة، وإدارة المياه على أساس أحواض الأنهار كاملة بدلا من حدود الولاية (لأن تدفق النهر يتم تصريفه في المياه الجوفية، والعكس صحيح). كما أن إعادة تدوير المياه الحضرية المستعملة ضروري أيضا.

البديل هو إغراق الهند في أزمة مياه أعمق مع كل حالة جفاف، وأن يتم التخلي عن كتل كاملة من الأراضي من قبل سكانها بسبب نقص الإمدادات -وهو أمر يحدث بالفعل في أشهر موسم الجفاف عندما يصبح ملايين الهنود في الريف لاجئين مؤقتين بسبب المياه، يبحثون عن عمل في المدن.

وتثق قلة من مختصي المياه أنه سيتم اتخاذ إجراءات سريعة. يقول تاكار: “أقدمت الحكومة على بعض الأمور الرمزية، لكن فيما يتعلق بالبرامج والسياسات والممارسات، لا يوجد أي تغيير مطلقا”. وبالنسبة لخادكا، من منظمة الأغذية والزراعة، الأخبار الجيدة هي أن الإنتاجية الزراعية المنخفضة في الهند تعني أن لديها فرصة لزيادة الإنتاج الزراعي أثناء استخدامها للمياه بحكمة أكبر، رغم أنه يقول إن المياه ستصبح قريبا “قضية كبيرة” ويخشى أن الهند غافلة وستغرق في مشكلات خطيرة.

عودة إلى قرية جوسياري بالقرب من البئر الوحيدة ذات المياه العذبة، يقول رجل متقدم في العمر إن حالة الجفاف والدفء تصبح أحيانا سيئة للغاية في شهري أيار (مايو) وحزيران (يونيو) حيث يستيقظ الناس في الساعة الثالثة صباحا لشرب ماء بارد رطب من البئر”. وماذا سيحصل لو أن هذه البئر جفت أو أصبح ماؤها أجاجا؟ يرد قائلا: “فيما لو حدث ذلك فإن قرية جوسياري سوف تختفي”.