Site icon IMLebanon

هل يمكن لأجهزة الكمبيوتر أن تعين أفضل الموظفين؟

pc
بيتر داي

إنه حقا سؤال صعب: ما الذي نعنيه تماماً بشركة أو مؤسسة؟ إنها منظومة أُنفق عليها الكثير من الوقت والمال والجهد، ويتكالب عليها الخبراء ليطبّقوا مثلهم العليا في الإدارة.
الأجوبة معقدة، ولها جوانب قانونية وتركيبية وفلسفية وثقافية. إذ تتألف أية شركة من كيان يجمع مئات ـ أو آلاف ـ الأشخاص. خلية نحل تُمنح إحساساً بأن لها غاية، ولكن من خلال ماذا؟
أهو المنتج الذي تصنعه، أم الخدمات التي تقدمها؟ أم الزبائن الذين يعتمدون عليها؟ أم الكيان الهرمي الذي تعتمده وتتبناه؟ أم الروح العامة التي تتبعها؟ أم هويتها القانونية التي تصف نفسها بها باعتبارها شركة محدودة؟
لقد أتيحت لي الفرصة مؤخراً لأن اتأمل، بشكل ساحر، ماهية الكيان الذي نسميه شركة. وحصل ذلك أثناء برنامج “في التجارة والأعمال” الذي يبثه “راديو بي بي سي 4” حول ما بدأ يلوح في الأفق من محاولة الشركات الاعتماد بقوة على أجهزة الكمبيوتر في تعيين موظفين جدد.
يعيش بيل نوفاسكي، المقيم في لندن، في عالم البيانات، والمسمى الوظيفي الخاص به هو مدير عام قسم “علوم اتخاذ القرار” لدى مجموعة “كيه بي إم جي” الضخمة للمحاسبة. وهو يحاول في وظيفته أن يطبق عملية تحليل البيانات، والانفجار الحاصل في تبادل المعلومات والمسمى حالياً باسم “البيانات الضخمة”، وذلك بغرض تحسين الطريقة التي تعمل بها الشركات.
إن عدداً متزايداً من العاملين في الشركات يخلّف وراءه آثاراً عديدة، كما يقول. تشكل هذه مسارات لبيانات يمكن قطف ثمارها لتحسين أداء الأفراد، والشركة ككل.
لا يبدو الأمر مثيراً للاهتمام، حتى تبدأ بالتأمل فيه. في مجال عمل المختصين بالاتصالات والرقميات، نحن نولّد حالياً كميات هائلة من معلومات بالغة الدقة، ومحددة عن سلوكياتنا اليومية، وفي كل ساعة، ودقيقة تلو الأخرى.
وهي توثّق كيفية استعمالنا لأجهزة الكمبيوتر وهواتفنا، وما نقوم به من نشاط ضمن شركة ما. وما نضعه من تعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي له نفس الأثر.
وعندما نستعمل “بطاقة المفتاح” للانتقال من قسم إلى آخر في شركة ما، يولّد ذلك بيانات عن حركتنا عبر أقسام الشركة. ويطلق بيل نوفاسكي على كل هذه البيانات تعبير “قطع أثرية”.
ويقول إنه ربما ليست لدينا أية فكرة عن كمية المعلومات التي نتركها خلفنا عن أنفسنا، وكلها بيانات يمكن قياسها. وقد يبدو وكأنها نواحي تافهة جداً لأدائنا في العمل.

ما الوقت الذي نبدأ فيه العمل، على سبيل المثال. هل يوجد شيء في منظومة العمل نسجل فيه حضورنا في كل مرة، في العمل، أو المنزل أو حتى في القطار؟
وترتفع على الفور وتيرة اللوم المعتاده في مواجهه مثل هذه المنظومة: إنه “الحاكم المتعسف” أو “الرقيب الأكبر”، أليس كذلك؟ نعم الأمر وارد، حسب قول نوفاسكي.
غير أنها أيضاً تمثل عونا كبيرا لتحسين أداء شخص ما، وذلك إذا استعملت الشركة بيانات أنجح موظفيها لتقدم ملاحظات وإرشادات إلى المتقاعسين عن العمل فيها.

تدريب الكمبيوتر

فيما يخص التوظيف، هناك مواقع على الإنترنت، مثل موقع “لينكد إن” للتواصل الاجتماعي بين المهتمين بالتجارة والأعمال، تزود الشركات بأعداد هائلة من الموظفين المحتملين لكل وظيفة.
وبهدف غربلة المرشحين ذوي الكفاءة، بإمكان البيانات المتحصلة من خلال الميول الملاحَظة لسلوكيات شخص ما أن تكون مفيدة جداً في بناء قائمة نهائية للمرشحين للوظيفة من بين المئات من المتقدمين.
وقتها، يصبح مبدأ الشركة مهماً حقاً. ولكل شركة معروفة مجموعة أشخاص ناجحين فيها. إنهم موظفون ملائمون للشركة ويؤدون مهامهم بكل همة وذكاء.
إنهم متواجدون هناك بالفعل، ويولّدون كل يوم مئات البيانات التي تعطي نبذة عن أسلوب أدائهم الرائع، ومثال لذلك، المتخصصون في المبيعات من ذوي الإنتاجية العالية.
لذا، نجد أن إحدى وسائل التوظيف هي استعمال قوة الكمبيوتر في تحليل الأرقام والبيانات لتقييم خصال الأشخاص المميزين العاملين في شركة ما، ثم وضع قائمة نهائية بالموظفين المحتمل توظيفهم في الشركة بعد مقارنتهم بالعاملين من ذوي الأداء المتميز.

ولكن، ألا يؤدي ذلك إلى قيام الشركات بتوظيف أشخاص مماثلين فقط لوضع الشركة القائم بالفعل، وبما هي عليه؟ ألا يميل استخدام “البيانات الضخمة” إلى إهمال عنصر التنوع، وهو أمر ضروري بالفعل؟
ليس ذلك بالضرورة، كما يرى بيل نوفاسكي، نظراً لدهاء عملية تحليل المعلومات والبيانات. فقد بنت شركة “كيه بي إم جي” نموذجا يجمع 10 آلاف نقطة بيانية مختلفة تولدت من شخص واحد. وذلك يعني ملايين البيانات الدقيقة عن مجموعة من الأشخاص في شركة ضخمة.
إذا ما قمت بتحليل ذكي لتلك الأرقام فستخلص إلى الحصول على دلالات مهمة. يطلق بيل نوفاسكي على ذلك “تدريب الكمبيوتر” وذلك بإعادة النظر في البيانات المولّدة من خلال عاملين سابقين لدى الشركة، ومقارنتها بالنتائج الحالية، مع من بقى منهم، ومن ترقّى في الوظيفة ومن كان صاحب أداء جيد.
أترون ما الذي يبرز هنا؟ إنه نموذج معقد جديد لشركة يُنظر إليها عبر مؤشر “البيانات الضخمة” مما يولده كل يوم الأشخاص العاملون فيها. إنها الجوانب العملية لحياتهم في العمل، وذلك أمر واضح، ولكن هناك أيضاً العلاقات والاهتمامات التي يذكرها هؤلاء العاملون على صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
يبدو كأننا نلقي نظرة فاحصة على تفاصيل عمل خلية نحل في إحدى الشركات، ونفكر ملياً وربما نفهم حركات ذلك النحل العامل في أعماق وقلب الشركة.
إذا كانت أجهزة الكمبيوتر تخلّصنا بشكل جيد من الشكوك المتعلقة بتوظيف بعض العاملين، فالخلاصة أنه يمكن تطبيق الأمر على كامل التركيبة الهرمية للشركات، لتساعدنا تلك الأجهزة في تحديد من يستحق منهم أن يجلس في القمة، بناءً على البيانات المستوفاة عن مؤشرات الأداء الرئيسية والتي تولدت خلال مراحل ترقّيهم المهني.
لعل كل ما ذكر سيجعل محبي الطراز القديم يشيروا إلى فقدان شيء واحد في هذا النمط الجديد من الهيكل الإلكتروني، ألا وهو مهارات البشر وخصالهم الخفية التي لن تظهر على أي من نقاط البيانات تلك. إنها أمور كانت تدعى مهارات التواصل مع الآخرين.
في الحقيقة، يبدو أن هذا التواصل الشخصي مع الآخرين يسبب مصاعب واقعية عندما يتعلق الأمر بتعيين الموظفين.
إذ تشير دراسة تلو الأخرى إلى وجود انحياز كامل في عملية التوظيف، حتى في شركات تقول إنها ملتزمة بقضائها على التمييز. إذ يميل الرجال في مراحل العمر المتوسطة من الجنس الأبيض إلى توظيف أمثالهم من الرجال البيض في مراحل العمر المتوسطة، مهما كانت نواياهم. وتعد عملية التوظيف الآلية من خلال أجهزة الكمبيوتر عملية عمياء لا ترى مثل تلك التأثيرات البشرية.

وإذا استطاعت أجهزة الكمبيوتر تلك أن “تتعلم” حقاً من الخبرة السابقة، فربما ستتمكن في يوم ما من أن تقوم بعملية استطلاع للخصال الشخصية، تماماً مثلما تقوم حالياً بتقييم التصرفات والسلوكيات القابلة للقياس الخاصة بالمتقدمين للوظائف ومقارنتها بتلك التي تخص الأفراد المتفوقين من فريق العمل.

مكان عمل واقعي

يبدو وكأن “البيانات الضخمة” تلك قد بدأت في خلق خارطة جديدة بالكامل للشركات، وربما نظريات جديدة بالكامل عن كيفية عمل شركة ما.
في الواقع، لدي أيضاً نظريتي المتواضعة فيما يخص هيكل الشركات وعملها، دعوني أخبركم بها. للعديد من الشركات جدول تنظيمي، وهو يشبه خارطة تبيّن كيفية سير العمل، ومن يقدم تقريره لمن.
ويبدو أن تقديم التقارير هو الصفة المميزة لكيفية سير العمل، ويُعرف المركز الوظيفي الإداري بعدد “التقارير” التي تصل الشخص الذي يحتل ذلك المركز (أي بعدد العاملين تحت سلطته). ويعرف أيضاً بقرب المدير من مركز القرار، وعدد المستويات التي تفصله عن صاحب القرار.
غير أن هناك خارطة أخرى لهيكل الشركات، مختلفة تماماً عن نظام القرار الهرمي الذي لا يعرف المديرون سواه طيلة حياتهم.
يكفي أن تسأل الأشخاص العاملين ضمن الهيكل الهرمي للقرار عمن يطلبون منهم إنجاز مهامهم. ستنشأ عن هذا السؤال البسيط خارطة لهيكل الشركة تختلف كليةً عن الطريقة التي يعتقد المديرون في قمة الهرم أن شركتهم تطبقها في عملها.
سيكشف ذلك السؤال مدى التباعد بين من هم في القمة وبين العاملين، ومدى انفصال القيادة في وقت يعتقد المديرون في قمة الهرم الوظيفي أن تأثيرهم ملموس.
ويكشف هذا الفرق أموراً كثيرة. إنه، تماما مثل البيانات ذات العشرة آلاف نقطة، يصف شركة ليس كما ينبغي أن تكون، بل كما هي في وضعها القائم. وسواء كانت النتائج أفضل أم أسوأ، فهذا هو واقع حال أماكن العمل، وليس الحال الذي يعتقد أصحاب المراكز الادارية العليا أنهم نجحوا في خلقه.