كتبت جنى جبّور في صحيفة “الجمهورية”:
تبدو الحياة وكأنها خشبة مسرح كبيرة، نعيش فيها أدوراً مختلفة، فنفكّر في كثير من الأحيان أنّ الذين حولنا ممثلين تتبدّل شخصياتهم بحسب أدوارهم ومكان وجودهم فنظنّ أنهم مصابون بما يُعرف “بازدواجية الشخصية”. وفي بعض الأحيان، ومن دون مقدّمات، يتغيّر مزاجنا وتتبدّل شخصيّتنا وطريقة تصرّفاتنا مع الآخرين دون معرفة السبب. من هنا ضرورة فهم شخصيّتنا ومزاجنا للعلاج في حال عانينا من المشكلات.
الصحّة النفسية موضوع أساسي في حياة الانسان العامة والخاصة، وهي تؤثر بشكل مباشر في تقدّمه او سقوطه فيها. لذلك، كان لـ”الجمهورية” حديث خاص مع بروفيسور العلوم النفسية والعقلية في جامعة “اوهايو” الأميركية، ورئيس زمالة الطبّ التشاوري في مؤسّسة “حمد” الطبية في قطر، الدكتور عادل سليمان أبو زرعه، الذي استهلّ حديثه قائلاً: “هناك الكثير من المغالطات بين الشخصية والمزاج حتى عند المحترفين في علم النفس. الشخصية لا تتغيّر منذ الولادة، وهي الطابع الاساسي الذي يرتكز على طريقة التعامل مع البشر، وطريقة التعامل مع الحياة ومشاكلها ومع كلّ شيء من حولنا، انما الذي يتغيّر هو المزاج وسلوكنا الذي يمكن أن نتدرّب عليه وعلى طريقة كبحه والسيطرة عليه”.
المزاج
يتغيّر مزاجنا مرات عدّة في اليوم، وتختلف معه طريقة تعاملنا مع الاشياء. وفي هذا الاطار، يوضح أبو زرعه انّه ليس من الضروري أن يرتبط تغيّر المزاج دائماً بالسلوك السلبي، ففي كلّ يوم من حياتنا يتغيّر مزاجنا وهذا ما ندعوه التأقلم.
مثلاً، تختلف تصرفات استاذ المدرسة عندما يكون مع تلاميذه عن تصرفاته مع الادارة وزوجته واولاده. فكلّ انسان يرتدي القبّعة المناسبة لكلّ ظرف ويخلعها حسب المتطلبات الظرفية التي تواجهه.
فهناك قبّعة الزوج، وقبّعة الحبيب، والأب، والمدير… وهذا الأمر لا يُعتبر تغييراً في الشخصية بل في التعامل مع الآخرين محافظاً في الوقت عينه على الشخصية الأساسية. وهذه القدرة مهمة جداً، لأنّ الذكاء يُقاس بالقدرة على سرعة التأقلم مع اوضاع جديدة في الحياة وما يدور حولها. فالإنسان الذكي هو الشخص الذي “كيف ما كبيّتو بيجي واقف”، أي الذي يستطيع أن يلبس الدورَ المناسب لكلّ وضع.
الحالات المرضية
يُعتبر المزاج السببَ الأساسي للنجاح أو السقوط في الحياة، واضعاً العراقيل أمام التقدّم في الوظيفة مثلاً أو في الحياة الخاصة والعامة. لذلك، يلجأ كثيرون الى تعلّم كيفية السيطرة على سلوكهم.
وتوجد في دماغ كلّ شخص منطقة تتعامل مع الكوابح، وهي التي تسيطر على الشعور الذي يمكن أن يسبّب لنا المشكلات أو ردّات الفعل غير الملائمة. ويعدّد أبو زرعه 3 أمثال مرضية ترتبط بالسلوك والمزاجية:
– الانفجار التواتري: أي ردّة الفعل العنيفة غير المتوازية مع الضرر الذي وُجد. إذا داس مثلاً أحد على رجل شخص بالخطأ، وقام الاخير بضربه وشتمه والاساءة اليه، وبعد ذلك انتبه الى تصرفاته وتقدم له بالاعتذار، عندها تُعتبر ردة فعله مرضية وكأنه لم يكن بكامل وعيه. هؤلاء الاشخاص لديهم مشكلة في كوابح الدماغ ويجب أن يخضعوا للعلاج المناسب لحلّ هذه المشكلة.
– المزاجية ذات القطبين: هي مرض عضوي نفسي، ينتقل خلاله الشخص من الكآبة الى حال الهيجان خلال فترة اسبوع او اشهر أحياناً. فنرى مثلاً الانسان الكئيب والحزين والمنطوي والمنعزل قد تحوّل الى شخص متفجّر متكلّم متباهٍ وكاذب، وفجأة نراه قد عاد الى المزاج الكئيب.
تُعرف هذه الحالة بالمرض العقلي وليس العاطفي وتندرج تحت خانة المزاجية ذات القطبين (Bipolar Disorder) وهو مرض عقلي وراثي يستوجب على المريض الخضوع للعلاج.
– الشخصية السلبية العدوانية: أي الاشخاص الذين يعدون بتنفيد بعض الاشياء ولكن لا ينفّذون وعدهم وعندما يُسألون عن هذا الموضوع يقولون إنهم نسَوا، فهم يعطون اجابة ايجابية ولكنّ النتيجة تكون دائماً سلبية.
ويضيف: “تُعتبر إزدواجية الشخصية مرض نادر الوجود (1 في الـ10 آلاف شخص) في غالبيتهم من النساء اللواتي تعرّضن في طفولتهن لأعمال عنفيّة جسديّة أو جنسيّة، فيصبح لديهن تشرذم في الشخصية وبالتالي يتكوّن داخلهنّ عددٌ من الاشخاص يجعلون الشخص يكمل حياته رغم كلّ الصعوبات دون الانتحار. وقد يصل عدد الاشخاص داخلهن الى 10. وغالباً ما يكون في داخلهن شخص عنيف يدافع عنهنّ فيضرب مثلاً ويطلق النار. وشخص آخر ناعم، لطيف ومحب، وشخص ثالث يتعامل بلطف مع الجنس الآخر ويُرسل رسائل مزدوجة المعنى بهدف تحقيق انجذابٍ اصطناعي”.
السيطرة على السلوك
يتمتع الانسان بشخصية واحدة اساسية يرتكز عليها بطريقة تعامله مع الآخرين، ولا يمكن تحديد شخصية أيّ إنسان تحت عمر الـ18 سنة، إذ لا تكون ملامح الشخصية واضحة، وبعد الـ18 تتكوّن الشخصية ولا تتغيّر بعدها، بل الذي يتغيّر هو السلوكيات وجوانب التعامل مع البشر التي يمكن التدّرب عليها وتغييرها.
ويشرح أبو زرعه: “يطلب كثيرون من الناس المساعدة إذا اضطروا مثلاً في ظرف عملهم القيام بمحاضرة او اجتماعات او مؤتمرات صحافية وهم بطبيعتهم لا يحبّون المجموعات البشرية الكثيرة، لأنّ ذلك يسبّب لهم دقات قلب سريعة، وتعرّقاً في اليدين. وهنا يمكننا مساعدتهم عبر وصف الأدوية التي تساعدهم في السيطرة على هذه الظواهر النفسية والجسدية”.
العصبية والإكتئاب
بتنا نلاحظ في حياتنا اليومية الكثير من التغيّرات المفاجِئة في مزاج كلّ شخص منّا، وخصوصاً من الناحية العصبية والعنف الزائد. ويقول أبو زرعه في هذا السياق إنّ “قدرة الناس على التأقلم والتحمّل تغيّرت نتيجة الاحتراق الوظيفي والتراكمات اليومية والضغوطات التي كلّما زادت انخفضت القدرة على التحمّل. وهذا لا يعني أنّ الناس يتغيّرون بل إنّ الضغوط اليومية والاجتماعية والمالية والوظيفية والعاطفية تتجمّع كلّها وتشكّل “الفتيل” الذي يشتعل عند أوّل ضغط جديد يتعرّص له الشخص. ومن المهمّ الانتباه في حال تغيّرت شخصية الانسان إلى أنّ ذلك قد يخبّئ مشكلة صحّية جدّية، كتورّم الدماغ والنزف البطيء فيه”.
دور المحيط
تلعب الصحّة النفسية دوراً مهماً في حياة كلّ شخص وتؤثر على حياته في مختلف الامور، لذلك ينصح أبو زرعه بأن “ينتبه المحيط الى كلّ شخص يعاني من تغيّر في سلوكه أو تعبيره العاطفي واصطحابه لاستشارة الطبيب، لأنّ الشخص المعني لا يلاحظ تصرّفاته. وهناك علاجات مهمّة كالأدوية والعلاجات السيكولوجية والمعرفية السلوكية، أو حتى علاجات جراحية متوافرة لتعطي نتائج ممتازة”.
لبنان وعلم النفس
ويشدّد أبو زرعه على ضرورة الانتباه الى الاكتئاب الذي يكون الشخص فيه متوتراً أمام أيّ حالة حتى لو كانت سخيفة وهذا ليس تغيّراً في السلوك أو تبدّلاً في الشخصية إنما هو مرض نفسي. وفي العالم العربي عموماً ولبنان خصوصاً يستعملون عبارة “عندو أعصاب” للدلالة على أنّ الشخص كئيب، أو لأنّ الطبيب لا يشرح غالباً للمريض تفاصيل المشكلة بل يكتفي بوصفها أنها مشكلة أعصاب ويصف له المهدّئات التي تضرّ على المدى الطويل وتسبّب التعاسة والكآبة والإدمان، فهي تهدّئ الأعصاب من دون حلّ المشكلة.
وتندرج هذه المشكلة في الناحيَتين الطبّية والاجتماعية لأنه ليس هناك تدريب حقيقي للاطباء العامّين الذين لم بخضعوا للتدريب النفسي خلال دراستهم من اجل مساعدة اختصاصيّي طب النفس، خصوصاً وانه في لبنان لا يتعدّى عدد الأطباء النفسيين الـ 1 في 100 ألف، بينما في العالم المتحضّر يوجد 1 في الـ10 آلاف.
