Site icon IMLebanon

“الكذبة الثالثة”… إحتقانٌ وريدي في الحبكة

كتبت نسرين بلوط في صحيفة “الجمهورية”:

في قصّة مأساويّة للروائية المجريّة أغوتا كريستوف، تسردُ في الشطر الأول منها قصّة صبيّ صغير يدعى «لوكاس» يتأهّب لصراعٍ مرير مع الحياة بقلبٍ واجس بعد أن أودعه أهله في مركز للعناية بذوي العاهات، وهو لم يبلغ الرابعة من عمره… ولكنه يتعافى ويمكث في المركز لأنّ أهله اختفوا ولم يعد أحدٌ منهم للسؤال عنه، ما يلحّ عليه فقط صورة أخ توأم له لازَمه كلّ سنوات عمره حتى تخطّى الأربعين، وزاره مراراً في الحلم.

يُدَمّر المركز الذي يأويه في الحرب وهو طفل، فيجد نفسه مضطرّاً للعيش عند عجوز قاسية كان يدعوها «جدتي»، وتدعوه بـ»ابن الكلب»… وبعد أن ماتت اضطرّ أن يعبر الحدود هارباً إلى بلدٍ آخر… بعد أن قست عليه ظروف الحياة… وهكذا يقضي حياته بائساً جارفاً ذكرياته مع الماضي في بئر عميق.. وقبل أن يرحل من المدينة بعد أن يقبض عليه بسبب انتهاء إقامته، يلمح له ضابط الشرطة بأنّه عثر على رجلٍ قد يكون أخاه التوأم ويدعى «كلاوس».. يذهب لمقابلته.. فينكره.

الشطر الثاني فيه تروي لنا الكاتبة قصة مأساوية أخرى لأخيه التوأم كلاوس من وجهة نظره، والذي يعرف سبب تلك المأساة في تشريد أخيه.. فقد كان يعيش مع أمّه، التي ارتكبت جريمة قتل بحقّ أبيه بعد أن صمّم على هجرها للعيش مع امرأة أخرى أحبها تدعى «انطونيا»، لأنها كانت حاملاً منه. وتصيب عن طريق الخطأ ابنها لوكاس برصاصة طائشة فينقل إلى المركز للعلاج. تودع الأم في مستشفى الأمراض العقلية، وبدافع من عذاب الضمير ربما، تحضر انطونيا لتأخذ كلاوس وتربّيه عندها بعد أن تلد ابنتها سارة أي شقيقته التي يحبها فيما بعد، ويبتعد عنها بعد أن تماثلت أمه للشفاء وعادت إلى البيت ليعود معها.

سبب نكران كلاوس لأخيه لوكاس مبهم جزئيّاً، إذ توضح الكاتبة بأنّ الأم لطالما أرهقت أعصاب ابنها بمقارنته الدائمة مع أخيه الذي كانت تتوق لرؤيته وتداهمها الرؤيا فتتخيله جالساً معهما في صدر الدار، تحادثه ويحادثها.. فربما لعبت الغيرة دورها وتأجّجت في صدر الصبي، وتهيّب موقفاً يصبح فيه هو في ركن النسيان، وآثر أن يحتفظ لأخيه بصورة جميلة.. بالإضافة إلى خوفه على أن يؤول البيت مناصفة في الميراث إليهما معاً، ففضّل تجنّب الحقيقة.. وردّ أخاه خائباً..

لم يحتمل لوكاس الصدمة بعد تنكّر شقيقه له، فينتحر تحت عجلات القطار.. ويوصي أن يدفن إلى جانب أبيه فيلبّي له أخوه كلاوس رغبته الأخيرة…عازماً على إلقاء نفسه تحت عجلات الموت هو الآخر.. ممّا يدلّ على التخبّط السيكيولوجي المرير الذي يعيشه أبطال الرواية، والدائرة العميقة الأثر التي خلّفها صراع الوالدين في الماضي وخيبة زواجهما.

المضمون خائرٌ في الصياغة والإكثار من ضمائر الغائب «قال-قلت»، من دون التركيز على الحوار المتبادل المكثف في تلك الرواية في توظيف الحدث، حتى أنّ الحبكة تتأرجح بين شطرين وتميل أكثر إلى جهة الشرير.. وكأنّ وجوده هو من يجلسها ويحميها من الذوبان التام في حناجر السرد.

قصة المأساة التي تحدث نتيجة جريمة قتل لها مؤثراتها الهامة في تكوين شخصية الطفل لوكاس، الذي أصيب وكبر ولم يرهق نفسه في البحث عن أهله بل تَاه مرة أخرى في زقاق الحياة ودهاليزها المرّة القاتمة.. إلى أن عاد فوجد السراب.. وفي شخصية الطفل الثاني كلاوس الذي اضطرّ للعيش مع سبب المأساة، أي عشيقة والده، وتحمّل انتقاد أمه الدائم له بسبب لوعتها لفقدان أخيه الثاني.

ولكن تصريف الحبكة وإدراجها لم يأتيا ضمن الأصول الروائية المتينة الدفّة، بل داخت في عالمٍ جاف يلفّه القنوط حيث تنتقل الكاتبة من حياة من نسج خيالها ثم تليها بحياة حدثت في الواقع، وكأنها كانت تريد أن تفتعل حبكة أخرى فأخفقت.
ويبقى العنوان الذي لم يبلغ في تقنيته مضمون الرواية على الإطلاق ولم يطبّق أصول حواشي النص ومؤشراته، فخذل القارئ بشدّة، ولم يفهم قصدها في تسميته.