“… يشبه رجلاً جاهلاً بنى بيته على الرمل، فنزل المطر، وجاءت الأنهار وهبّت الرياح، وصدمت ذلك البيت فسقط، وكان سقوطه عظيماً”!
(إنجيل لوقا 6، 47- 49)
إن كان السعي إلى المصالحة مقدساً، فالأهم أن يحكم هذا السعي الرغبة بالمصالحة لا المصلحة. ولكم يُشبه بناء “مصالحة معراب” بناءً شُيّد على الرمل من دون أساسات لا في السياسة ولا في المصالحة الفعلية التي تبقى الأساس.
يمكن أن نقسّم ما جرى في معراب إلى قسمين:
أولاً: “اتفاق معراب” الذي هو اتفاق سياسي بحت أدّى ثماره بالنسبة إلى “التيار الوطني الحر” في 31 تشرين الأول 2016 يوم انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، قبل أن يتنصّل “التيار” من واجباته بموجب هذا الاتفاق بحسب الاتهامات القواتية الواضحة، وبحسب ما يجمع جميع المراقبين. وأياً تكن الحقيقة ومن تنصّل ومن أخلّ في ظل الاتهامات المتبادلة، فإن التنصّل من الاتفاقات السياسية والإخلال بها يشكل سمة الحياة السياسية المبنية على المصالح لا على الأخلاق منذ فجر التاريخ، لأن كل اتفاق سياسي أو عسكري يُنفّذ بحسب موازين القوى، ويتغيّر تنفيذه بحسب تغيّر موازين القوى. الأمثلة كثيرة، وأهمها لبنانياً على سبيل المثال أن اتفاق “الطائف” أُقرّ في العام 1989، إنما لم يتمّ تنفيذ بنوده لأن موازين القوى تغيّرت داخلياً بفعل حرب الإلغاء وخارجياً بفعل حرب الخليج الثانية لتحرير الكويت. والأمثلة أكثر من أن تُحصى لبنانياً وإقليمياً وعالمياً وآخرها الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي مع إيران، وبالتالي من ينتظر أن يبقى أي طرف على التزاماته في حال تبدّلت موازين القوى لمصلحته يكون ساذجاً في السياسة. وأي اتفاق سياسي بين طرفين يبقى قائماً طالما اقتنع الطرفان أنه يشكل حاجة لهما، ولا يمكن أن يستمر في حال أحد الطرفين تخلّى عنه، أما “البنود الجزائية” فتبقى ملك الرأي العام في حال أراد أن يحاسب!
أما من استفاد من “اتفاق معراب”؟ فالجواب هو: المستفيد الأول وشبه الوحيد هو الرئيس عون الذي لولا “القوات اللبنانية” لما تمكن من الوصول إلى بعبدا بعدما كاد يصل إليها سليمان فرنجية، وباستفادة الرئيس عون استفاد رئيس “التيار” الوزير جبران باسيل الذي بات يتحكم بمفاصل كثيرة في الدولة ويعمل على التحضير لخلافة الرئيس عون. في الجهة القواتية مستفيد وحيد هو الوزير ملحم رياشي كشخص بعدما “كوفئ” وتم توزيره. أما من يدّعي أن “القوات” استفادت شعبياً والدليل أنها حصدت 15 نائباً في الانتخابات النيابية الأخيرة، فهو يتجاهل عمداً عن أن ما تغيّر هو القانون، ويقيناً لو أن انتخابات الـ2009 أُجريت وفق قانون الـ2018 لكانت “القوات” حصدت أكثر من 20 نائباً. الخلاصة ان “القوات” خرجت من “اتفاق معراب” من دون أي مكسب، في حين أمسك “التيار” بكل مفاصل الدولة سياسياً وإدارياً وعسكرياً وأمنياً ودبلوماسياً وخدماتياً وعلى كل المستويات. ويقيناً لو أن “اتفاق معراب” بُني على رؤية سياسية موحدة لكان صمد، تماماً كما صمد “تفاهم مار مخايل” بين “التيار” و”حزب الله” على قاعدة تغطية “التيار” الدائمة لسلاح الحزب ومشاريعه الداخلية والإقليمية. وفي العلاقة بين “التيار” و”القوات” لا يمكن حتماً البناء على بنود عشرة أُقرّت في معراب تشبه في صياغتها ونواياها البيانات الوزارية للحكومات اللبنانية المتعاقبة على قاعدة “لا يموت الديب ولا يفنى الغنم”. فلا “التيار” في وارد العودة إلى ثوابته ما قبل انتخابات الـ2005 رغم بعض المناورات الإعلامية المدروسة للوزير جبران باسيل من “الميادين” إلى “الماغازين”، ولا “القوات” في وارد التخلي عن ثوابتها والانتقال إلى المحور السوري- الإيراني رغم لقاء يتيم عقده الوزير ملحم رياشي مع مسؤول إيراني في منزل صديق مشترك بمعية نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي!
ثانياً: “مصالحة معراب” التي عوّل ويعوّل عليها الكثيرون لطي الماضي نهائياً، والتي تشير كل الوقائع السياسية والإعلامية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي إلى سقوطها سقوطاً مدوياً أيضاً كمثل سقوط “البناء على الرمل”، لأن ما سُمّي “مصالحة” إنما بُنيت على زغل وعلى رمال مصالح وبقيت من دون أساسات.
فلأي مصالحة، وخصوصاً في المجتمعات التي عانت حروباً ودماء، شروط واضحة أهمها المصارحة والحقيقة والاعتذار، وهو ما لم يحصل في “مصالحة معراب” التي سُلقت على نار المصالح السياسية والرئاسية الطارئة بعيداً عن الاعتبارات الموضوعية الضرورية.
والأهم أن أي مصالحة لكي تحقق النتائج المرجوة منها، تفرض أن يقوم بها “المتقاتلون” السابقون بأنفسهم وعبر رموزهم، وهذا أيضاً لم يتوفر في مصالحة معراب. فلا الوزير ملحم رياشي كان قواتياً في أي يوم مضى ولا شارك في أي حرب أو مواجهات سابقة، ولا النائب ابراهيم كنعان كان “عونياً” قبل العام 2003، لا بل المعروف عنه أنه كان “كتلوياً” قبل ذلك التاريخ. فكيف يمكن لشخصين لم يعيشا أياً من المعاناة السابقة أن يبنيا مصالحة فعلية على أسس سليمة: المصارحة لا المواربة، الحقيقة لا التهرّب من مواجهتها، والاعتذار لا المكابرة؟!
ثمة من يكرّر دائماً أن إنجاز “مصالحة معراب” أنها منعت نقل أي توتر إلى الشارع، وفي هذا الإدعاء مكابرة في غير مكانها. فالاحتقان الإعلامي وعلى مواقع التواصل الاجتماعي يعوّضان عن الاحتقان في الشارع المضبوط منذ العام 1991. أما في الجامعة اللبنانية التي كانت تشهد أبرز المواجهات فالانتخابات معلقة منذ سنوات طويلة، وتعليق هذه الانتخابات هو ما أدى إلى تهدئة الشارع الطالبي الذي يشهد تشنجات في الجامعات منذ ستينيات القرن الماضي.
وفي المقابل يتناسى البعض أن تسعينيات القرن الماضي شهدت مراحل تعاون عدة إيجابية بين “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر”، وخصوصاً مثلا في مقاطعة الانتخابات النيابية لأكثر من دورة، وفي عدد من استحقاقات الانتخابات النقابية وخصوصاً في نقابة المهندسين يوم دعم القواتيون بقيادة الشهيد رمزي عيراني ترشيح النائب الحالي حكمت ديب وغيرها من الأمثلة وقمتها تجلّت في الاضطهاد المشترك يومي 7 و9 آب 2001 والذي أعقب مصالحة الجبل يومذاك. وبالتالي فإن الشارع كان يتفق أو “يتشنّج” ضمن حدود طبيعية جداً وفق مقتضيات المواجهة السياسية، والتشنّجات اليوم بين كل الأطراف تتم ترجمتها ليس على الأرض أبداً، إنما على مواقع التواصل الاجتماعي التي تشهد في المرحلة الأخيرة المواجهات الأعنف بين جمهوري “التيار” و”القوات”.
الخلاصة أن “مصالحة معراب” سقطت، وكان سقوطها متوقعاً منذ اليوم الأول، وما نسمعه ونقرأه اليوم في العلن في مواجهات الطرفين يشكل القليل القليل مما يُقال في الغرف المغلقة لدى الطرفين. وقد يكون من المفيد والضروري وقف حملة التكاذب السياسي بين الطرفين المتمثلة بالتذاكي بالإصرار على “الحفاظ على المصالحة” التي لم تتحقق يوماً، والتي إذا أرادها الطرفان فعلاً وليس بالشعارات والأغاني الفارغة، فليتجرّآ على خوض تحديات المصارحة والحقيقة والاعتذار!