Site icon IMLebanon

تفسير المُفَسّر عن الغاء الطائفية السياسية والوظيفية

كتب المحامي ضياء الدين محمد زيباره  في صحيفة “اللواء” :

مقدمة:​

تُعد وثيقة الوفاق الوطني اللبناني الشهيرة «باتفاق الطائف» التي وضعت بين الأطراف المتنازعة في لبنان، المرجعية الأولى التي تستند إليها السيادة اللبنانية كمرجع نهائي يستمدّ منه اللبنانيون وفاقهم الوطني بعد الحرب الأهلية الطاحنة، التزمت بها جامعة الدول العربية والمجموعة الأوروبية والمجموعة الأفريقية ومجلس الأمن بالإجماع وصدّقت في جلسة مجلس النواب بتاريخ 5/11/1989.​

 

تضمنت الوثيقة العديد من الإصلاحات، وتحت بند الإصلاحات السياسية وردت الفقرة المطلوب تفسيرها تحت عنوان «إلغاء الطائفية السياسية» وهي أهم فقرة في الوثيقة فنصت على:​

– إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية…​

ويتم في المرحلة الإنتقالية ما يلي:​

أ – إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والإختصاص في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة والمصالح المستقلة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني بإستثناء وظائف الفئة الأولى فيها وفي ما يعادل الفئة الأولى وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص آلية وظيفة لأية طائفة.​

 

كرّست هذه الفقرة من الدستور «مبدأ اعتماد الكفاءة والإختصاص في الوظائف العامة دونما اعتبار للتمثيل الطائفي بإستثناء وظائف الفئة الأولى»، هذا المنحى في التفسير اعتمده المجلس الدستوري فجاء في قراراته فورد:​

[وبما ان المجلس يرى انه بقدر ما تتضمن وثيقة الوفاق الوطني نصوصا آدرجت في مقدمة الدستور أو في متنه، أو مبادئ عامة ذات قيمة دستورية، بقدر ما تكون مخالفة تلك النصوص والمبادئ خاضعة لرقابة المجلس الدستوري،​ وبما ان إدراج «العدالة الاجتماعية» في الفقرة «ج» من مقدمة الدستور من بين مرتكزات النظام الجمهوري الديموقرطي البرلماني يجعل من هذا المرتكز مبدأ دستوريا نصياً يصار الى التحقق من تقيّد أي قانون به بمعرض أعمال الرقابة على دستوريته، أي على التزامه أحكام الدستور ومبادئه…] (القرار رقم 1\2002 تاريخ 31\1\2002).​

ويجمع المعاصرون لاتفاق الطائف ومنهم من شارك في إقراره، أن روحية نصه وخلفية وضعه هي إلغاء الطائفية السياسية والوظيفية وإجراء إصلاحات أهمها اعتماد الكفاءة والإختصاص في الوظائف العامة دونما اعتبار لهوية وطائفة الناجحين فيها، ولو أنه تم تطبيق هذه الإصلاحات لما كان القيّمون على مؤتمر سيدر اليوم اشترطوا إجراء الإصلاحات عينها التي خرج بها اتفاق الطائف ومنها اعتماد الكفاءة في الوظائف العامة.​

 

أما محاولة الإلتفاف على إرادة المشترع التأسيسي عن طريق الإشارة الى أن عبارة «وفقا لمقتضيات الوفاق الوطني» تعني مراعاة التمثيل الطائفي، فهي لا تستند الى أي أساس قانوني سليم وتخالف النص الواضح والصريح كما تخالف أبسط قواعد التفسير للنصوص الدستورية أو القانونية، فلو لم تكن الغاية من هذا النص اعتماد الكفاءة والإختصاص في الوظائف العامة دون مراعاة التمثيل الطائفي (بإستثناء وظائف الفئة الأولى) لما كان تم تعديل نص هذه المادة أصلا ولما كان تم إيراد المبدأ الدستوري «اعتماد الكفاءة والإختصاص دونما اعتبار للتمثيل الطائفي» بهذه الصراحة والوضوح.​

أما عبارة «وفقا لمقتضيات الوفاق الوطني» فإن المقصود بها أن مقتضيات المصالحة الوطنية التي تمَّت عام 1989 بين القوى المتصارعة والتي أدّت الى اتفاق الطائف هي التي حدت بالمجتمعين الى عدم اعتماد التمثيل الطائفي إنما الكفاءة.​

وهذا المنحى اتخذه مجلس شورى الدولة، فورد في أحد القرارات الصادرة عنه:​

[وبما أن هذا التمييز بين وظائف الفئة الأولى وسواها من الوظائف العامة، يُعَبّر بوضوح عن إرادة المشترع التأسيسي في حصر قاعدة التوازن الطائفي الدقيق التي كانت معتمدة في ظل النص القديم للمادة 95 بوظائف الفئة الأولى دون سواها، واعتماد قاعدة جديدة مرنة في سائر الوظائف العامة تعتمد الاختصاص والكفاءة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني وان تطبيق هذه القاعدة الجديدة يجب ألا يبقى قائماً على التوازن الطائفي والحسابي الدقيق الذي كان معتمداً في ظل النص القديم للمادة 95 في كل مشروع مرسوم أو قرار على حدة، وإلا لما كان من مفعول لتعديل أحكام هذه المادة وللتمييز بين وظائف الفئة الأولى وسائر الوظائف العامة لا سيما وان مقتضيات الوفاق الوطني هي التي أملت إلغاء طائفية الوظيفة واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة.

وبما أنه يتبيّن من ملف المراجعة أن المرسوم المطعون فيه تضمن ترفيع ستة موظفين في ملاك المساعدين القضائيين من الفئة الثالثة إلى الثانية من أصل 31 مركزاً شاغراً في هذه الفئة، ولم يكن ثمة أي مبرر لجهة التمثيل الطائفي لتخطّي المستدعي في ترفيع زملائه إلى الفئة الثانية]. (القرار رقم 626 تاريخ 13/5/2004).

​وما يكرّس صحة هذا التفسير، النص الواضح والصريح  للمادة 12 من الدستور: (لكل لبناني الحق في تولّي الوظائف العامة لا ميزة لأحد على الآخر إلا من حيث الاستحقاق والجدارة حسب الشروط التي ينص عليها القانون).

إذاً بمقتضى هذا النص فإن الوظائف العامة هي حق لكل لبناني دونما تمييز أو مراعاة بين مذهب وآخر، فلا يجوز حرمان لبناني نجح في مباريات أُجريت وفقا للأصول من حق الوصول الى الوظيفة لسبب طائفي، لأن المبدأ الدستوري المنصوص عليه في المادة 95 (إلغاء الطائفية واعتماد الكفاءة والإختصاص في الوظائف العامة) والمبدأ الدستوري المنصوص عليه في المادة 12 المتقدمة (الحق في تولّي الوظائف العامة لا ميزة لأحد على الآخر إلا من حيث الاستحقاق والجدارة) يجعلان من نص المادة 95 واضحا وليس بحاجة الى تفسير.

وأكثر من ذلك نصت مقدمة الدستور الفقرة ب: [لبنان… هو عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم مواثيقها والإعلان العالمي لحقوق الإنسان]، ونص الإعلان الأخير في المادة الثانية منه: [لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين…].

وبما أن أحد هذه الحقوق هو الحق في تولّي الوظيفة العامة بالكفاءة، فإن هذه الفقرة تًكرّس أكثر وأكثر مبدأ عدم اعتماد التمثيل الطائفي في الوظائف العامة وعدم التمييز بين المتقدمين للوظائف على أساس الدين.

 

تم التشديد في رسالة فخامة الرئيس على عبارة «المرحلة الإنتقالية» الواردة في المادة 95 طالبا تحديد هذه المرحلة، وكأنها المرة الأولى في لبنان التي يصبح فيها المؤقت شبه دائم، وكم من قانون صدر على أساس «إستثنائي ولمرة واحدة» تكرّرت فيه هذه العبارة مع كل مرة يصدر من جديد.

نذكر في هذا المجال  أن نص المادة 95 عينه الوارد في النص الأساسي من الدستور عام 1926 ورد فيها أيضا: (بصورة مؤقتة وعملا بالمادة الأولى من صك الانتداب وإلتماسا للعدل والوفاق تمثل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وبتشكيل الوزارة دون أن يؤول ذلك الى الأضرار بمصلحة الدولة). إذا عبارة «بصورة مؤقتة» التي وردت في نص المادة 95 من دستور عام 1926 بقيت حتى تعديل عام 1989 أي ثلاث وستون عاما.

 

​• خلاصة

إن نص المادة 95 من الدستور هو من النصوص الواضحة والصريحة وليس بحاجة الى تفسير خاصة في ضوء النصوص الدستورية المساقة أعلاه، وقد كرّس مبدأ دستوريا نصيا هو «مبدأ اعتماد الكفاءة والإختصاص في الوظائف العامة دونما اعتبار للتمثيل الطائفي بإستثناء وظائف الفئة الأولى «وإن المقصود بعبارة «وفقا لمقتضيات الوفاق الوطني» الواردة فيها «أن مقتضيات الوفاق الوطني هي التي أملت إلغاء طائفية الوظيفة واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة».

يقول البعض هل يستأهل إلحاق أربعماية مواطن نجحوا في مباريات أجريت أصولا في وظائفهم؟ هل يستأهل ذلك الإخلال بالتفاهمات؟ والمنطق يقول أيهما أولى تدمير طموحات جيل بأكمله كرمى لحسابات طائفية وإعادتنا الى عصر التوظيف على أساس الطائفة وليس الكفاءة أم التوظيف على أساس الكفاءة والإختصاص؟ لا شك أنه ما من مجال للمقارنة بين ما يؤدّي الى بناء وطن وما يؤدّي الى بناء كونتونات طائفية نبذَها العالم بأسره.

يُذكر أنه في العام 2002 وتماشيا مع نصوص الدستور المتعلقة بإلغاء الطائفية السياسية والوفاق الوطني، حاول الرئيس الشهيد رفيق الحريري السير بمشروع قانون يرمي الى إلغاء الحماية القانونية عن الوكالات التجارية الحصرية، قامت الدنيا ولم تقعد لكونه اصطدم بحاجز طائفي لأن معظم الوكالات هي بيد تجار من طائفة واحدة، وقِس على ذلك في مجالات شتى… فلماذا كل هذا الضجيج حول قضية مُحقة كقضية الناجحين في مباريات مجلس الخدمة المدنية؟