Site icon IMLebanon

“وصفة الراعي” لإنقاذ لبنان أم لتحصين أسوار الطائفة

كتبت صابرة دوح في “العرب اللندنية”:

لم يرد الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي أن يشذ عن خطى أسلافه البطاركة الموارنة في ترك بصمة مؤثرة في لحظات لبنان الفارقة، فكان أن طرح مؤخرا وصفة قديمة جديدة تتمثل في “الحياد الناشط”، في بلد يغرق في أزمات تكاد تكون مستعصية في حضرة السلطة السياسية القائمة، المسنودة بقوة السلاح.

شُبهت الخطوة التي أقدم عليها الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي بـ”نداء المطارنة” الذي أطلقه البطريرك الراحل نصرالله بطرس صفير في سبتمبر من العام 2000، وإن اختلفت شخصية الرجلين وظروف كلا المرحلتين، حيث كان اللبنانيون منتشين حينها بالانسحاب الإسرائيلي من الجنوب، يراودهم حلم مماثل ألا وهو انسحاب القوات السورية (تحقق في العام 2005)، وكنس الطبقة السياسية الموالية وفرض السيادة اللبنانية.

اليوم يواجه لبنان واقعا مختلفا في ظل أزمة مالية واقتصادية غير مسبوقة منذ نهاية الحرب الأهلية (1975/ 1990)، يحمّل الشارع اللبناني مسؤوليتها للطبقة السياسية المهيمنة بسبب إهمالها وسوء تصرفها وفسادها، ومشاركة مكون بارز فيها في معارك عبثية لفائدة قوى إقليمية، ما أدى بلبنان في نهاية المطاف إلى عزلة عربية ودولية خانقة.

أزمة لبنان ازدادت وطأة مع الانفجار المروع في الرابع من آب الذي أتى على “عروس المتوسط” بيروت، وتقول التحقيقات الأولية إنه ناجم عن إهمال. وأدى هذا الانفجار الذي تسببت فيه أطنان من نترات الأمونيوم مخزنة بطرقة غير سليمة في أحد مستودعات مرفأ بيروت منذ 2013، إلى مقتل أكثر من 182 شخصا بينهم رعايا عرب وأجانب، وحوالي 6000 جريح بالإضافة إلى 30 مفقودا، فضلا عن تشريد الآلاف من العائلات ودمار واسع في البنية التحتية.

ولئن تداعت دول العالم لمساعدة لبنان في مصاب الانفجار بيد أن هذه المساعدة ظلت محسوبة، حيث أن المجتمع الدولي يرفض إلى الآن اتخاذ خطوات عملية في سبيل إنقاذ البلد المنكوب اقتصاديا وماليا بضخ الأموال في شرايينه ما لم يجر إصلاحات هيكلية وأيضا سياسية في علاقة بكف يد حزب الله عن التدخل في الصراعات الإقليمية.

على وقع الكوارث المتوالية على لبنان وجد البطريرك الماروني نفسه مضطرا إلى تصويب البوصلة وقرر مغادرة المنطقة الرمادية، التي كان يتشبث بجدرانها منذ الصفقة الرئاسية التي أتت بميشال عون رئيسا للجمهورية في العام 2016، عبر النبش بين طيات تاريخ لبنان الحديث بحثا عن “وصفة سحرية” لإنقاذ البلد قبل فوات الأوان فكان أن اهتدى بمساعدة من المقربين إلى وصفة الحياد، في ظل قناعته بأن جوهر مشكلة لبنان هو تشابك الأزمات الداخليّة وتداخلها مع الحسابات الخارجية.

مقترح الراعي لم يكن وليد انفجار بيروت ولكن ما حدث للمدينة وما استتبعها من تحركات دولية مثيرة لاسيما دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من قلب بيروت إلى ميثاق سياسي جديد شكل حافزا قويا لتحويل هذا المقترح من مجرد فكرة للتباحث بين الأفرقاء إلى مذكرة موجهة للأمم المتحدة طالب من خلالها البطريرك بـ”العمل على إعادةِ تثبيت استقلال لبنان ووحدته، وتطبيق القرارات الدوليَّة، وإعلانِ حياده”.

وقال الراعي في مذكرته إن “حياد لبنان هو ضمانُ وحدته وتموضعه التَّاريخيّ، وبخاصَّة في هذه المرحلة المليئة بالتَّغييرات الجغرافيَّة والدستوريّة. حيادُ لبنان هو قوَّته وضمانة استقراره. فلبنان الحياديُّ هو القادر على المساهمة في استقرار المنطقة أيضًا والدِّفاع عن حقوق الشُّعوب العربيَّة وقضيَّة السَّلام، وعلى لعب دورٍ في نسجِ العلاقات السَّليمة والآمنة بين بلدان الشَّرق الأوسط وأوروبا بحكم موقعه على شاطئ المتوسِّط”.

الراعي كما جانب كبير من المسيحيين لا يخفون حذرهم مما يجري بحثه في الغرف المغلقة بشأن لبنان وسط مخاوف من عملية مقايضة تقوم على تسليم حزب الله سلاحَه في مقابل منحه وطائفته الشيعية صلاحيات سياسية واسعة، هذا الأمر بالنسبة إلى المسيحيين خط أحمر كونهم سيكونون أبرز المتضررين منه لاسيما وأنهم لطالما اشتكوا من أن اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية كان مجحفا وأتى على جزء من حقوقهم السياسية.

 

يريد الراعي تصويب هذا الوضع وتبني حياد حقيقي وفعلي بضمانة دولية، لكن الأمر ليس بالسهولة المطروحة؛ ذلك أن هذا الطرح يفترض التفافا داخليا هو غير موجود

 

وفصّل البطريرك في مذكرته التي أعلنها في السابع عشر من آب الخطوط العريضة لنداء الحياد موضحا أن “البعد الأول فيها هو عدم دخول لبنان في تحالفات ومحاور وصراعات سياسية وحروب إقليمية ودولية، وامتناع أي دولة عن التدخل بشؤونه أو استخدام أراضيه لأغراض عسكرية”.

و”البُعد الثاني هو تعاطف لبنان مع قضايا حقوق الإنسان وحرِيَّة الشُّعوب، ولاسيَّما العربيَّة منها التي تُجمِع عليها دولها والأمم المتَّحدة؛ وبذلك يُواصِل لبنان الدِفاع عن حق الشَّعب الفلسطيني والعمل على إيجاد حل للَّاجئين الفِلسطينيين لاسيَّما أولئك الموجودين على أراضيه”.

واعتبر أن “البعد الثالث فيها هو تعزيز الدولة اللبنانية لتكون دولة قويّة عسكرياً وبجيشها ومؤسساتها وقانونها وعدالتها ووحدتها الداخليّة، لكي تضمن أمنها الداخلي من جهة وتدافع عن نفسها بوجه أيّ اعتداء بري أو بحري أو جوّي يأتيها سواء من إسرائيل أو من غيرها من جهة أخرى”.

وأوضح أن المذكرة تبدأ بتوضيح معنى الحياد الناشط، مشيراً إلى أن الحياد يعني تعزيز الدولة لتكون قوية بجيشها ومؤسساتها وقانونها لضمان الأمن الداخلي والدفاع عن الحدود. وأكد ضرورة معالجة ملفات الحدود على أساس خط الهدنة مع إسرائيل وسوريا، وأن لبنان دولة مساندة وليس دولة مواجهة، مضيفا أن موضوع الحياد ليس من اختراعنا إنما هو واقع عاشه لبنان منذ عام 1920 حتى أوائل السبعينات.

وحذر الراعي من أن لبنان أصبح في دوامة حرب والمخرج الوحيد له هو الحياد، وقال “الخطيئة الأصلية كانت باتفاق القاهرة (1969) الذي أعطى للاجئين الفلسطينيين الحق بالقيام بعمليات ضد إسرائيل انطلاقا من لبنان وهنا فلتت المسبحة”. ودعا الأسرة العربية والدولية إلى أن تتفهم الأسباب الموجبة التي تدفع غالبية اللبنانيين إلى اعتماد نظام الحياد الناشط.

الحياد ليس فكرة مستجدة على لبنان، بل سبق أن طرحت في عدة محطات لاسيما من القوى المسيحية، المسكونة بهاجس الحفاظ على الوجود في بيئة نافرة. وظهرت الفكرة في مطلع العشرينات أي زمن الانتداب الفرنسي، حينما دعا عضو المجلس الإداري سليمان كنعان إلى تبني هذا الخيار في رد على دعوات إلى إقامة “سوريا الكبرى” التي تضم لبنان.

وخفت هذا الطرح بعد ذلك ليعود إلى البروز مجددا في خمسينات القرن الماضي حيث اقترح الرئيس الأسبق شارل الحلو حيادا قانونيا وفق النموذج السويسري، وكان من الأسباب الرئيسيّة التي دفعت الحلو إلى إحياء هذا الطرح القلق المتنامي من التحديات التي فرضتها حينها “الوحدة السورية المصرية”.

الدعوات إلى الحياد لم تهدأ من قبل المسحيين ففي كل منعرج حاسم يتم التلويح بهذه الورقة، لعل إحدى أبرز تلك المحطات حينما انخرط حزب الله بعناصره المدججة بالسلاح في الحرب السورية في العام 2013، في ظل معارضة داخلية ودولية.

وصدر في العام 2014 “إعلان بعبدا” الذي نص في البند الثاني عشر منه على ضرورة “تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية، وتجنيبه الانعكاسات السلبية للتوترات والأزمات الإقليمية حرصًا على مصلحته العليا ووحدته الوطنية وسلمه الأهلي، ما عدا ما يتعلق بواجب التزام قرارات الشرعية الدولية والإجماع العربي والقضية الفلسطينية المحقة بما في ذلك حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم وديارهم وعدم توطينهم”.

ولم يلتزم حزب الله بالإعلان كما كان متوقعا حيث استمر في القتال في سوريا بذريعة أن انهيار نظام الرئيس بشار الأسد سيشرّع الباب أمام استهدافه في الداخل اللبناني. ورغم ذلك حرصت الحكومة اللبنانية التي تشكلت في العام 2016 بناء على صفقة بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر -وكان حزب الله غير بعيد عنها- على التأكيد في بيانها الوزاري على مفهوم النأي بالنفس، وتجدد الأمر ذاته مع حكومة حسان دياب التي استقالت الشهر الجاري على خلفية احتجاجات واسعة.

هذه العبارة المجترة، أي النأي بالنفس، كانت مجرد إبراء ذمة مما يقوم به حزب الله في الخارج والذي للمفارقة هو موجود في قلب السلطة، بل هو من يدير خيوطها.

اليوم يريد الراعي تصويب هذا الوضع وتبني حياد حقيقي وفعلي بضمانة دولية، لكن الأمر ليس بالسهولة المطروحة؛ ذلك أن هذا الطرح يفترض التفافا داخليا هو غير موجود ليس فقط من جهة حزب الله الشيعي الذي يعتبر أن الأمر يستهدفه بشكل مباشر لأنه سيفرض عمليا انسحابه من جبهات القتال الإقليمية وتسليم سلاحه، بل هناك تحفظات وتردد حتى من القوى المقابلة.

وقال مفتي الديار اللبنانية الشيخ عبداللطيف دريان، في رسالة وجهها إلى اللبنانيين في 19 أغسطس الجاري بمناسبة حلول رأس السنة الهجرية “قد لا نحتاج إلى الحياد، إذا بنينا دولة قوية وعادلة، ومعززة بالوحدة والتماسك الداخلي”، معتبرا أنه “إذا بقينا على انقسامنا ولم نبن دولة، فلن يفيدنا أي حياد حتما، ولن نخرج من نفق التمزق والتشرذم والحقد والعداء”.

وتساءل دريان “ما قيمة الحياد إذا كان المسؤول لا يقيم وزنا للسيادة؟ ولا يقيم معنى أو مضمونا للحكم الرشيد والحرية ولا يعرف كيف يجنب بلاده وشعبه التورط في الحروب والصراعات الإقليمية والدولية، فيستدرج الدول إلى ساحاته، ويستجدي الدول الأجنبية للتدخل في شؤونه؟”.

الحياد ليس فكرة مستجدة، فسبق أن طرحت في عدة محطات لاسيما من القوى المسيحية، المسكونة بهاجس الخوف على الوجود

الموقف من الحياد يلقى أيضا تحفظات من بعض القوى المسيحية على غرار التيار الوطني الحر الذي سبق وأن أعرب عن رفضه ضمنيا لهذا الخيار، وهذا ليس بالغريب؛ ذلك أن الحزب الماروني يستظل أساسا بحزب الله، وإن تجريد الأخير من مكامن قوته سيعني نهايته، لكن ذلك لا يعني أن التيار البرتقالي الذي يتزعمه وزير الخارجية السابق وصهر الرئيس عون جبران باسيل موافق على ما يجري الحديث عنه بشأن مقايضة بين سلاح الحزب وزيادة حصته في منظومة الحكم، وسبق أن صرح باسيل في 16 أغسطس الجاري “لن نقبل تطوير النظام إلا بالتفاهم”.

إلى جانب غياب الإجماع في الداخل، هناك القوى الإقليمية والدولية التي لا تبدو في وارد التخلي عن رهاناتها في هذا البلد، وحتى الطبيعة نفسها تعاند مثل هكذا طرح، فموقع لبنان الجغرافي يجعله في قلب الاستقطابات الخارجية، وبالتالي فإن حظوظ نجاح الحياد في لبنان تبقى محل شك وقد يكون تشبيهها بـ”نداء المطارنة” الذي أطلقه البطريرك الراحل صفير وأسس لمرحلة سياسية جديدة ينطوي على تسرع.

وقال الراعي في عظته الأحد إنّ “وثيقة الحياد الناشط”، ليست مشروعا خاصا بالبطريرك أو بالبطريركية المارونيّة، بل هي عودةٌ إلى صميم الكيان السياسيّ اللبنانيّ، وليس هو موضوع وفاق بل يستلزم أولاً وفاقًا على الولاء للبنان، قبل الوفاق على الحياد. فمتى حصل الوفاق على الولاء للبنان، يصبح القبول بالحياد أمرًا بديهيًّا”. يبقى المؤكد أن “انتفاضة” الراعي بعد غفوة أعادت إحياء دور بكركي السياسي.