Site icon IMLebanon

الحريري… الطريق إلى “السراي” ليست معبّدة

كتب صلاح تقي الدين في صحيفة “العرب اللندنية”:

 

رغم كل المصائب التي عانى منها رئيس الحكومة الأسبق وزعيم “تيار المستقبل” سعد الحريري، إلا أنه بات بحكم الواقع والاعتراف المحلي والدولي “المرشح الطبيعي” لترؤس الحكومة اللبنانية العتيدة كما أعلن بنفسه، وهو يتحصّن بهذا الواقع في مقاربته لمسألة تشكيل حكومة “مهمة” كما وصفها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ استقالة حكومة اللون الواحد التي شكّلها حسان دياب عقب ما سمّي بـ“الانفجار النووي” الذي أصاب العاصمة اللبنانية ودمّر مرفأها في الرابع من آب الماضي. لكن السؤال الكبير هو هل سيتمكن الحريري من “تأمين” التكليف؟ وفي هذه الحال، هل يضمن سهولة “التشكيل” وفق شروطه التي سبق أن أعلنها؟

ماذا كان ليفعل والدي؟

لطالما ردّد الحريري، ابن الرئيس الراحل رفيق الحريري، مقولة ”ماذا كان ليفعل والدي؟“ لمعالجة المطبات السياسية الكبيرة التي دفعته تارة لمواجهة من يفترض أنهم ”حلفاء”، ناهيك بمواجهة “الخصوم”، وقرّر الأسبوع الماضي أن يطرح نفسه “منقذاً” من خلال ترؤس حكومة “مهمة” تطبق الإصلاحات الملحة والضرورية لإنقاذ البلاد التي وصلت إلى قعر الهاوية، وتكون مؤلفة من اختصاصيين بعيداً عن تدخلات السياسيين الذين اعترف أنهم سبب “الأزمات” من دون أن يستثني نفسه من المسؤولية. هذا ما كان ليفعله رفيق الحريري.

لقد اغتنم الحريري الفرصة التي لاحت عقب إعلان رئيس الجمهورية ميشال عون تعيين موعد للاستشارات النيابية الملزمة في الخامس عشر من الشهر الجاري، فرتّب ظهوراً تلفزيونياً مع الإعلامي مارسيل غانم يوم الخميس الماضي، ليعلن مباشرة أنه “مرشح طبيعي” لترؤس حكومة بعدما كان كرّر منذ استقالته في 29 تشرين الأول الماضي نتيجة “الانتفاضة” الشعبية الكبيرة أنه ليس مرشحاً لترؤس حكومة ولا يريد أن يعطي “العهد” ورقة إنقاذ تعوّمه وتعوّم سياساته.

انقطعت العلاقات بين الحريري والعهد بعدما سار عون وباسيل ومن خلفهما “حزب الله” نحو اختيار دياب لترؤس حكومة من لون واحد، شكّلت تحدياً للمزاج السنّي العام نتيجة عدم توفّر أي دعم شعبي أو “إفتائي” له، علماً أن الثنائي الشيعي ظلّ حتى الدقيقة الأخيرة يردّد أن مرشحهم لترؤس حكومة جديدة هو الحريري نفسه، لكن موقف الأخير الرافض دفعهم إلى دياب.

غير أن الحريري تغاضى عن الخلافات المزمنة مع رئيس الجمهورية ومن خلفه رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، ولم يتردد في زيارة عون في قصر بعبدا ليبحث معه مضمون المبادرة الفرنسية واستطلاع رأيه فيما إذا كان لا يزال مؤيداً لها وداعياً لتنفيذها، كما لم يتوان عن زيارة الرئيس نبيه بري، الذي كان ولا يزال يؤمن بأنه لو طلب “لبن العصفور” لأمّنه له، في محاولة لتبيان موقفه من المبادرة نفسها، فبدت الأجواء التي سرّبت عن اللقاءين إيجابية. معروف أن الحريري كان قد عقد ما سمّي في حينه “التسوية الرئاسية” التي نتج عنها انتخاب عون رئيساً للجمهورية وضمان بقائه في السراي الحكومي رئيساً طيلة مدة العهد، غير أن ما تكشّف لاحقاً هو أن هذه “التسوية” لم تكن سوى عبارة عن صفقات أبرمها الحريري مع “الصهر”، لكن الممارسات التي انتهجها باسيل أخرجت الحريري عن طوره ودفعته إلى التراجع رويداً رويداً عن هذه التسوية وصولاً إلى معارضة العهد و”قدحه” بعبارات الفشل وغيرها وإعلانه سقوط هذه التسوية نهائياً.

نادي الرؤساء والدور الخفي

لكن بعد استقالة دياب وإطلاق الرئيس ماكرون ما أسماها “مبادرة” إنقاذية تنص في مجمل بنودها على معالجة الشأن الاقتصادي، وجد “نادي رؤساء الحكومات” السابقين أنفسهم أمام تحدي تسمية الشخصية “السنية” التي تمثلهم لتكليفها بتشكيل حكومة “المهمة” فوقع الخيار على سفير لبنان لدى ألمانيا الاتحادية مصطفى أديب.

وضع أديب لنفسه خارطة طريق مستنداً إلى بنود المبادرة الماكرونية بكاملها غير أن العقبات الواحدة تلو الأخرى بدأت تظهر أمامه ليس أقلها استبعاد “السياسيين” عن مشاوراته وتصميمه على الإتيان بفريق عمل متخصص بعيداً كل البعد عن تدخلات الفرقاء المختلفين، فصُدم في بادئ الأمر بإصرار الثنائي الشيعي على الاحتفاظ بحقيبة وزارة المالية، ثم تصاعد الموقف وصولاً إلى المطالبة بتسمية كل الوزراء الشيعة.

العقبة الثانية التي واجهها أديب كانت تشدّد الرئيس عون وفريقه بتسمية الوزراء المسيحيين على غرار المطالبة الشيعية، فوجد أديب نفسه أمام حائط مسدود دفعه إلى الاعتذار عن إكمال مهمته الإنقاذية.

لكن الطامة الكبرى كانت اتهام “نادي رؤساء الحكومات السابقين” بأنهم، وتحديداً الرئيس الحريري، هم الذين فعلياً يشكلون حكومة أديب، وربما كان هذا الاتهام في محله خصوصاً عندما بادر الحريري في خطوة قد بدت في الشكل غير منسقة مع “رفاقه” لكن في المضمون عكس ذلك، بأن أعلن في بيان موافقته على “منح” الشيعة حقيبة المالية شرط أن تكون لمرة “أخيرة”، مشدداً في الوقت عينه على رفض فكرة حكومة تضم سياسيين، لكن ذلك لم يدفع مسألة التشكيل إلى الأمام قيد أنملة.

ثم أطل الرئيس السابق للحكومة نجيب ميقاتي على الإعلام ليطلق “فكرة” على ما أسماها تقوم بتشكيل حكومة “تكنوسياسية” تضم أربعة عشر وزيراً من الاختصاصيين وستة وزراء دولة من السياسيين لتمثيل كافة الفرقاء، في ما بدا محاولة منه لتسويق نفسه كرئيس لحكومة تستند أساساً إلى المبادرة الماكرونية، غير أنه عاد لاحقاً وأعلن ترشيح الرئيس الحريري لتولّي هذه المهمة. بعد خروج الحريري من اجتماعه مع عون في قصر بعبداً، تلا “بياناً” مكتوباً محضّر سلفاً قال فيه “قلت إن هدفي هو تعويم مبادرة الرئيس ماكرون، لأنها الفرصة الوحيدة والأخيرة لوقف الانهيار وإعادة إعمار ما دمّره انفجار مرفأ بيروت”. وأضاف “اليوم، تشرفت بلقاء فخامة الرئيس، وأبلغته أني سأرسل وفدا للتواصل مع جميع الكتل السياسية الرئيسية للتأكد من أنها ما زالت ملتزمة بالكامل ببنود الورقة التي وافقت عليها سابقا في مطلع الشهر الماضي في قصر الصنوبر في حضور الرئيس ماكرون.. هذه هي الفرصة الاخيرة، هذه المبادرة الفرنسية قائمة على تشكيل حكومة اختصاصيين لا ينتمون للأحزاب، تقوم بإصلاحات محددة بجدول زمني محدد، لا يتعدى أشهرا معدودة”.

وشدّد الحريري على أنه من المهم تكرار أن عدم وجود أحزاب في الحكومة هو لأشهر معدودة فقط، وتابع قوله ”أي أننا كأحزاب لن نموت، ولتنفيذ إصلاحات اقتصادية مالية وإدارية فقط لا غير. والجميع يعرفون السبب، وهو أن جميع الحكومات التي شكلت على الأسس التقليدية لتمثيل الأحزاب، فشلت بالإصلاحات، وأوصلتنا وأوصلت البلد للانهيار الكبير الذي نعيشه اليوم”.

انفضاض الحلفاء

ولم يكد الحريري يغادر قصر بعبدا حتى بدأت التعليقات حول “البيان” الذي تلاه تتوالى، فأشارت مصادر معنية إلى أن “الحريري أسوة بسائر حضور اجتماعات قصر الصنوبر، واحد من الذين تعهّدوا بتسهيل المبادرة الفرنسية والالتزام بالورقة الإصلاحيّة، فمن الذي نصّبه وصياً على تطبيقها، وجهة مخوّلة بإجراء الفحوصات للآخرين لجهة صدقية التزامهم بها، خصوصاً أن الرئيس الفرنسي الذي اتهم كل السياسيين بخيانة تعهداتهم بصورة عامة، خصص الحريري بين الذين اتهمهم بالمسؤولية عن إفشال مبادرته، في نسختها الأولى الممثلة بحكومة كلف بتأليفها السفير أديب”.

وأشارت مصادر أخرى إلى أن حكومة اختصاصيين كما يحلو للحريري تسميتها، وخالية من الأحزاب لفترة ستة أشهر، كيف لها أن تترجم واقعيا في الوقت الذي يرأس فيه الحريري تياراً سياسياً واسعاً وبالتالي تلتصق به شخصياً صفة السياسي، فهل ما يجوز له لا يجوز لغيره؟ ما لم يكن الحريري يتوقعه هو أن يشنّ عليه “حبيب القلب“ كما يصفه، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط هجوماً لاذعاً خاصة في مسألة إرسال وفد من نواب “المستقبل” لمقابلته و”إخضاعه” لفحص الدم في ما يتعلق بالمبادرة الماكرونية، ناهيك عن رسم صورة قاتمة حول “صفقة” معينة يمكن أن يكون قد أبرمها من خلال “جهات إقليمية ودولية” مع باسيل والعهد لكي يعود إلى رئاسة الحكومة.

ثم هناك موقف “الحليف” السابق للحريري، رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الذي يعارض تسمية الحريري، أضف إلى ذلك موقف شارع “17 تشرين الأول” الذي كان وراء دفع الحريري إلى تقديم استقالة حكومته الأخيرة، فكيف ستكون طريق الحريري إلى رئاسة الحكومة معبّدة ما لم يخضع لشروط الثنائي الشيعي وشروط باسيل وبالتالي سيجد نفسه أمام المعادلة نفسها التي دفعت السفير أديب إلى الاعتذار.

وفي الوقت الذي يتم فيه تسريب معلومات حول العمل في الكواليس، بمسعى من رجل أعمال معروف، على جَمع الحريري وباسيل في لقاء سيسبق التكليف، على الأرجح، تبدو الشكوك حول احتمال إعادة تعويم التسوية الرئاسية في محلها، فهل هناك “قبة باط” إقليمية ودولية تدفع في هذا الاتجاه؟

في الخلاصة فإن الذي سيعاني أولاً وأخيراً هو الشعب اللبناني الذي “كفر” بكل الطبقة السياسية ونادى ولا يزال عشية الذكرى الأولى لانطلاق انتفاضته في الـ17 من تشرين الأول، برحيل هذه الطبقة وعلى رأسها الحريري نفسه، المسؤول “جزئياً”، باعترافه شخصياً، عن الحالة المتردية التي وصلت إليها البلاد.

قد يتمكن الحريري من الحصول على الغالبية البرلمانية في الاستشارات التي سيجريها عون لتسمية رئيس مكلّف، لكن هل سيكون طريقه إلى تشكيل حكومة “مهمة” تتولى تنفيذ المشروع “الإنقاذي” المستند إلى المبادرة الفرنسية سهلاً؟ الأيام القليلة المقبلة كفيلة بالجواب.