كتب هشام حمدان في “اللواء”.
من المحزن أن بعض المناضلين الشرفاء، يصرون على التسابق في نشر ايّة معلومة تصلهم مهما كان موضوعها. وتثور أحيانا لديهم الحميّة، فيندفعون بالتفاعل مع المعلومة دون الإنتباه إلى غرضها. وغالبا ما تبرز حقيقة أن المعلومة غير صحيحة، أو أن أهدافها غير بريئة، لكن آثارها السلبية تكون قد تركت مفاعيل مؤذية.
أذكر انني استقبلت مناضلا في دارتي قبل أشهر، في إطار حوار مفتوح عن الواقع اللبناني. وعندما شرحت أهمية موضوع الحياد وأهدافه الحقيقية، فاجأني مصارحا أنه كان من الذين هللوا وأيدوا حرق الخيمة التي كنت سأتحدث فيها خلال ندوة، عن هذا الموضوع. لم ينتظر تعليقي فقال: «كنت هاويا لكنني الآن أكثر خبرة.»
هذا المثال يبين سرعة تفاعل الناس مع الإشاعة، ونتائج انفعالاتهم السريعة التي تصيب أهدافهم الوطنية. هكذا يبني أعداء شعوبنا وأوطاننا خططهم لتحقيق أهدافهم سريعا وبسهولة ضدنا. هم يقيمون شائعات ويرفعون شعارات. يمررون المعلومات، ويتركون للسلطة، بل يتماهون معها، وهي تستفيد من انفعالات الناس، وتستغل السلطة التي بين أيديها، بغية تدمير مقاومة المجتمع لها وتشتيت وحدة موقفه، وتحويله في الاتجاهات التي تريدها. اليوم قرأت حوارا في إيلاف مع ضابط إسرائيلي كبير «ملمّ بكل شاردة وواردة»، يقول أنه «يدعو للسيد حسن نصر الله بالعمر المديد، وأنه يحمي لبنان والشيعة، ولا يعمل في خدمة إيران…» ترى ما هو الهدف من هذا الكلام سوى بث التفرقة بين اللبنانيين وزيادة الشرخ بين الشيعة والآخرين؟ هذا هو مفهوم فلسفة «الفوضى الخلاّقة» التي كانت تختبئ تحت عنوان «الربيع العربي» والتي حرّكت الشارع العربي، وأدّت به أخيرا إلى المصير الذي أرادوه لنا.
لبنان يملك حصانة مميزة بنظامه الديموقراطي وتنوعه الاجتماعي. لكن الجهل العام لحقوقنا الوطنية، سواء التي ينص عليها الدستور، او التي تمنحنا إياها قواعد القانون الدولي، إضافة إلى ردود الفعل العشوائية، تحرمنا من الاستفادة منها، والعمل على تفعيلها للخروج من حالتنا المقيتة. وقد أحال لي أحد الأصدقاء، رواية تشيد برد فعل قام به أستاذ رياضيات لبناني لدى تلقيه سؤالا ممجوجا من طلبتة في دولة خليجية، إذ كتبوا له سؤالا يقول: لبنان – فلافل= ؟؟؟ فقد نقلوا أن الأستاذ رد سائلا لهم وبغضب: الخليج – البترول= ؟؟؟ واسهب بشرح ما فعله اللبناني لخدمة أهل الخليج. الطلبة أساؤوا إلى لبنان ومواطنيه، ولكن الأستاذ أساء بالمقابل إلى دول الخليج ومواطنيه. طرد الأستاذ من الجامعة وعاد إلى بلاده يحمل الكراهية في أعماقه، معتقدا أن ما قام به يشكل ثأرا لكرامته الوطنيّة. تعميم هذه الرواية، سواء كان الحدث صحيحا أم لم يكن، ليس الهدف منه تعزيز مشاعر الكرامة الوطنية لدينا، بل إثارة ردود الفعل ضد دول الخليج وأهله. حتى ولو اتخذ رد الفعل شكل الكراهية التي تضر بمصالحنا المتبادلة. وما يؤكد هذا الأمر ذلك العنوان الذي نشرت المقالة في إطاره. فالمقال صدر تحت العنوان التالي: «زمن التطبيع المجاني والأنحناء الطوعي أمام عدو الأمة والشعوب العربية».
باختصار فإن البعض أراد أن يأخذنا من جديد إلى ردود الفعل، وإلى تجييش الناس في حروبهم ضد بعض العرب وغيرهم، تحت العنوان القومي ذاته. هم يتابعون دفع لبنان للبقاء ساحة لصراعات المنطقة، غير آبهين بكل الأثمان التي دفعها لبنان منذ عام 1969 وحتى اليوم، من أجل نضالاتهم القومية. ولا أيضا، إلى الواقع الذي أنتجه «نضالهم» على أرض فلسطين وسوريا والعراق واليمن ومصر والأردن وو…
أنا لا ألوم شباب الخليج، على هذه النظرة السوداء نحو بلادنا. أنا واثق أن أجدادهم الذين قادوا بلدانهم إلى التطور، تخرجوا من جامعات لبنان، أما أباؤهم فربما قد تخرجوا من جامعات غربية، بعد أن تم تدمير لبنان منذ عام 1975.
أجدادهم وآباؤهم يدركون تماما قيمة الفرد اللبناني، ولذلك فتحوا له الأبواب لكي يعمل هناك ويستفيد من ثرواتهم، وتقديرا لعطاءات وطنه لهم، في حين أن أركان السلطة في وطنه كانوا يشجعونه على الهجرة بحجة مساعدته على االفرار من جور اهل النظام الذين سرقوا أحلامه وأحلام أهله، ونهبوا ثرواته، ويصرون على بيعه الشعارات الجوفاء، واستمرار تحويله إلى أكياس من الرمال وقنابل يستخدمونها في حروبهم العبثية داخليا وخارجيا، وتركوه في العتمة دون كهرباء وبعزلة تامة عن باقي المجتمع الدولي، وحرموه من متابعة دوره الخلاّق في العالم.
صورة لبنان اليوم لا تعكس القيمة الحقيقية لوطننا، بل تعكس مفهوم الدولة الفاشلة. ورغم ذلك نستمر بتعليم العرب وغيرهم، «أصول الكرامة الوطنية، والعزة، والمقاومة»، ونصرخ هيهات منا الذلّة. من منّا يريد لأهلنا في الجنوب أو البقاع او الشمال الذلّة؟ فالثورة التي قامت في الشارع تسعى لمواجهة الذل الذي وصلنا إليه. إن وقوفنا في طوابير أمام المخابز، والمصارف، وعلى ابواب أمراء الحرب، واصحاب المال، ليست هي العزّة والكرامة الموعودة !
من حق شبيبة الخليج أن تنظر لنا بمثل هذه النظرة. فهل ينظر شبابنا أصلا إلى وطنهم بنظرة أفضل؟ وإذا كان شبيبة الخليج يجهلون ما قدمه لبنان لأجدادهم، فهل يذكر شباب لبنان ما قدمه لبنان لأجدادهم؟ هل يعلم شبابنا ما قدمه آباؤهم لخدمة الكرامة الإنسانية، والحضارة البشرية، والكرامة الوطنيّة؟ ثم هل يعلم شبابنا ما قدمه أهل الخليج لخدمة التطور البشري؟ هل يدركون كم دفعوا من أموال بترولهم لتعزيز العلم، والصحة، والكرامة الإنسانية للفقراء حول العالم؟ هل يعلمون كم دفعوا من أموال لحماية بيئة إنساننا المريضة؟ نعم نطالبهم بعطاء أكبر لشعوبنا العربية وتعزيز البحوث العلمية والتكنولوجية. لكن أسالكم بربكم أين تذهب أموال المساعدات التي تقدم لشعوبنا ؟ ألا تذهب إلى جيوب هؤلاء الحكام الفاسدين الذين يبيعوننا الشعارات؟ ألا يسرقون في لبنان احتياطنا النقدي القليل المتبقي، ليبعوا ما نستورده به من نفط وطحين وأدوية مدعومة من هذا الاحتياط، إلى دول الجوار والتجار؟
الثقافة المريضة لا تحكم شباب الخليج فحسب، بل كل شباب العرب ونحن منهم. فلا تسمحوا بتناقل مثل هذه المواقف المشبوهة. لا لمن يزرع الفتنة بيننا بحجة الترويج للكرامة الوطنية. لا لمن ينسون من أين تأتي اموالهم، ولمصلحة من يبيعون كراماتهم الوطنيّة ؟