Site icon IMLebanon

لبنان: موظّفو الدولة “يضربون” ضدّ الدولة

 

يصحّ مثال «القِلّة تولّد النقار» والشجار في وصْف تنفيذِ موظفي الدولة، اليوم الأربعاء، إضراباً ووقفات احتجاجية ضد الدولة «المفلسة»، للمطالبة بإنصافهم ومدّهم بالدعم المالي في مواجهة «تسونامي» التضخّم الذي يقضم، في أيام قليلة، مجمل مداخيلهم الشهرية وجلّ مكتسباتهم المضافة عبر قانون سلسلة الرتب والرواتب الصادر خريف العام 2017، عقب سلسلة الانحدارات الحادة التي راكمتْ فجوةً قاربت نسبتُها 90 في المئة من القدرات الشرائية للمَداخيل.

ومن غير المتوقّع أن تُفْضي هذه التحركات الاعتراضية إلى نتائج حسية تساهم فعلياً في تصحيح الاختلال الكبير الذي أصاب التوازن المعيشي للأسر اللبنانية والمقيمة سواء كان معيلوها من القطاع العام الذي استمهلتْه نارُ الغلاء بضعة أشهر، أو من القطاع الخاص الذي اكتوى مبكراً بذوبان المداخيل وحسومات الشركات لنصف الرواتب. بالإضافة إلى موجات الصرف من الخدمة التي رَفعت مؤشرَ البطالة فوق مستوى 40 في المئة من إجمالي نحو مليون فرصة عمل كان يوفّرها القطاع الخاص.

 

ففي القياس الرقمي البحت، يُقدّر أن إجمالي واردات الموازنة هبطتْ بنسبة تقارب 20 في المئة في العام الماضي، لتصل الى مستوى يقارب 14 تريليون ليرة. بينما يصل الإنفاق الإجمالي على المخصَّصات والرواتب وملحقاتها الى نحو 9.8 تريليون ليرة هذه السنة، وكان يمكن بلوغه مستويات تقارب كامل الايرادات لو لم تقُم وزارةُ المال بتأخيرِ دفْع مستحقات التعويضات للموظّفين المُحالين على التقاعد في المؤسسات العامة والعسكرية خصوصاً.

وبموجب هذه المعطيات، تُماثِل كتلةُ الأجور حالياً نحو 70 في المئة من مجمل موارد الموازنة، وأكثر من 50 في المئة من إجمالي الإنفاق السنوي للدولة الذي قدّرتْه وزارة المال بنحو 19 تريليون ليرة ضمن مشروع قانون الموازنة العامة، بعجزٍ أوّلي يفوق 5 تريليون ليرة.

وبمعزل عن دقة الأرقام المالية في زمنِ تَوالي الانهيارات التي تعانيها البلاد، فإنها تستبطن انحرافاً حاداً عند تقديرها بالسعر الواقعي للدولار الذي يهيمن بمفرده على تسعير غالبية أبواب الإنفاق، وخصوصاً المواد الأساسية والاستهلاكية.

وبسهولةٍ تامة يمكن تقدير البون الشاسع بين السعر الرسمي للدولار البالغ 1520 ليرة، والذي يتم اعتمادُه في كل أرقام الموازنة إنفاقاً وواردات، وبين السعر الرائج الذي تعدّى 13 ألف ليرة بوصْفه مرجعية التسعير التي رَفعت كامل منظومة الاستهلاك بنسبٍ تخطّت 400 في المئة وبلغت 600 في المئة في أبواب السلع المستورَدة.

وفي المحصلة الواقعية، سينتظر موظفو الدولة مع سواهم من اللبنانيين الإفراجَ الصعب عن البطاقة التمويلية الموعودة لمدّ نحو 750 ألف أسرة بدعمٍ نقدي شهري يقارب 140 دولاراً، وهو المشروع الذي انتقل ببطء شديد من الحكومة إلى مجلس النواب من دون أن تتكفل أي سلطة بحلّ معضلة مصدر ضخ الأموال في ظلّ خزينةٍ فارغة وقرب نضوب الاحتياطات الحرة لدى البنك المركزي.

ولعلّ الأكثر إثارة في هذا المضمار هي المنهجية السائرة على خط «ترشيد» الدعم، وما ولّدتْه من تَوَجُّسٍ مشروع من «مد اليد» إلى الاحتياطات الإلزامية للودائع البالغة نحو 15 مليار دولار. وبذلك يتولى المواطن المودع، بمَن فيه الموظف في القطاعيْن العام والخاص، حصةً من قيمة تمويل «البطاقة التمويلية»، بينما هو يكابد في الحصول على جزء من وديعته الدولارية ضمن سقوف شهرية منخفضة، وبسعرٍ بالليرة يقتطع نحو ثلثي القيمة المُقابِلة بالدولار (أي على سعر منصة الـ 3900 ليرة للدولار الواحد).

وتؤكد مصادر مالية مُواكِبة لـ «الراي» أن معضلةَ التمويل هي أحجية مستعصية. فقد سبق لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن أكد في كتابٍ رسمي الى وزير المال غازي وزني عدم قدرة مصرف لبنان على الإستمرار بسياسة الدعم الحاليّة، منبهاً في المقابل الى «أنّه إذا تمّ المساس بالإحتياطي الإلزامي على الودائع، سيتحمّل مصرف لبنان مسؤوليّات قانونيّة وقضائيّة، الأمر الذي قد يهدّد إمكان المصرف المركزي على التعاون مع طلبات الحكومة وسيؤثّر سلباً على علاقات مصرف لبنان مع المصارف المُراسِلة في الخارج». وبالتالي «أصبح من الضروري أن تقوم الحكومة بوضع تصوّرٍ واضح لسياسة الدعم من أجل الحفاظ على موجوداته بالعملة الأجنبيّة، كما وعليها أن تعمل على المساهمة في تأمين واردات بالعملات الصعبة لتغطية كلفة الدعم».

وتجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد إحصاء رسمي دقيق حول عدد العاملين في مؤسسات الدولة لأسباب عدة منها تعدُّد التسميات الوظيفية: موظف، متعاقد، أجير ومتعامل، وتعدُّد الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات، ولكن الرقم الصحيح إلى حد ما، بحسب رصد «الدولية للمعلومات» هو نحو 320 ألفاً يتوزعون: 120 ألفا في القوى الأمنية والعسكرية من جيش وقوى أمن داخلي وأمن عام وأمن دولة وشرطة مجلس النواب، 40 ألفاً في التعليم الرسمي، 30 ألفاً في الوزارات والإدارات العامة، 130 ألفاً في المؤسسات العامة والبلديات، ويضاف إلى هؤلاء نحو 120 ألفا من المتقاعدين أكثريتهم من العسكريين والمدرسين.