Site icon IMLebanon

قمح الإهراءات إلى التخمير بدل الترحيل

كتب حبيب معلوف في “الاخبار”:

أكثر من عام مرّ على آلاف الأطنان من القمح والذرة المخزّنة داخل أطلال إهراءات المرفأ، ومخاطر تخمّرها وإنتاجها لغاز الميتان والديوكسين المسرطن، من دون أن تنجح لجنة شُكّلت قبل عام في التوصل إلى حلول. وبعد اقتراحات عدة بترحيل هذه الحبوب أو دفنها أو رميها في عمق البحر، يبدو أن التوجه اليوم هو نحو تخميرها وتحويلها إلى «كومبوست» يوزّع على المزارعين.

ألحق انفجار 4 آب 2020 أضراراً جسيمة بصوامع المرفأ التي كانت تحتوي قبل الانفجار على 45 ألف طن من القمح والذرة، وتم تقدير الكمية المتبقية بعد الانفجار بما بين 15 ألف طن و16 ألفاً. ومع مرور موسم الشتاء وتعرضها للرطوبة والحرارة انخفض وزنها إلى 14 ألف طن بحسب آخر التقديرات. في أيلول 2020، شكّل وزير الاقتصاد والتجارة السابق راوول نعمة لجنة (تضم 30 شخصاً بينهم خبراء من الجامعتين الأميركية واليسوعية ومن سويسرا وفرنسا وممثلون عن وزارات البيئة والزراعة والاقتصاد والإهراءات) لتقييم الوضع وتقديم إجابات عن الأسئلة التالية: هل هياكل الصوامع آمنة للسماح باستخراج الحبوب المتبقية داخلها؟ وكيف يمكن استخراجها من دون تعريض العمال لخطر الجيوب الغازية في حال كانت عملية تخمّر الحبوب قد بدأت؟ وما هي الفحوصات المخبرية التي يجب القيام بها للتأكّد من أن الحبوب آمنة للاستهلاك البشري أو الحيواني؟ وما هي الآليّة المفترض اتباعها للتخلص منها في حال كانت غير صالحة للاستهلاك؟

لدرس الجيوب الغازية المحتمل تكوّنها نتيجة تخمّر الحبوب، اعتمدت تقنية المسح الضوئي الحراري التي تسمح بمعرفة درجة الحرارة داخل الصوامع وعبر أكوام القمح والذرة المبعثرة. فارتفاع الحرارة إلى أكثر من 60 درجة مئوية يدل على وجود عملية تخمّر نشطة واحتمال تكوّن جيوب غازية قد تشكل خطراً على العمال والسلامة العامة خلال عملية جرفها وإزاحتها عبر أي احتكاك ميكانيكي أو كهربائي. وبعد التأكد من أن عملية التخمّر سطحية ولم تطل عمق الصوامع والأكوام المبعثرة من القمح والذرة، تم إحداث فتحات في جدران الصوامع لتفريغ الحبوب وأخذ عينات منها للتأكد من سلامتها على صعيد التلوث الكيميائي والجرثومي ومطابقتها للمواصفات، لا سيما لجهة نسب الرطوبة والمعادن الثقيلة والسموم الفطرية والتلوث الجرثومي والمركّبات العضوية المتعددة الحلقات، ودرس درجة تفشي الحشرات في الحبوب ونسبة البروتينات فيها. وأُرسلت عينات إلى مختبرات البيئة والزراعة والغذاء في الجامعة الأميركية في بيروت لتقييم نسبة المعادن الثقيلة والسموم الفطرية (أفلاتوكسينات)، وبعض المكوّنات العضوية المتعدّدة الحلقات. وأظهرت النتائج أن نسبة المعادن الثقيلة ضمن الحدود المسموح بها. أما في ما يتعلق بالسموم الفطرية، فقد تبيّن من عيّنات الذّرة أنها لم تعد صالحة للاستهلاك البشري أو الحيواني كون نسبة السموم فيها وصلت إلى ما بين 50 و70 ضعف النسب المسموح بها، فيما أظهرت نتائج فحوص عينات القمح تضارباً. إذ جاء بعضها صالحاً للاستخدام البشري، وأظهر بعضها الآخر تخطّي نسبة السموم الحدود المسموح بها لهذا الاستهلاك. كما أظهرت الفحوص، خصوصاً في الذرة، وجود ملوثات عضوية متعددة الحلقات وملوثات عضوية مثل Malathion 50، وهو مركّب فوسفوري يستعمل في المبيدات الحشرية ويعدّ من الكيماويات ذات الخطورة العالية خصوصاً لدى تعرّضه لعملية أكسدة. كما تبيّن وجود أجزاء من المركب العضوي Piperonyl butoxide الذي يستعمل كمحفّز للمبيدات الحشرية. واكتُشف في العينات التي أُخذت من خارج الصوامع أجزاء من الأسبستوس (أقل من 1%) لا تؤثر على الحبوب التي لا تزال محفوظة داخل الصوامع على الأقل.

اللافت هو التضارب بين بعض نتائح الفحوصات، وعدم تطابقها، خصوصاً في ما يتعلق بالسموم الفطرية، مع نتائج الفحوصات التي أجرتها وزارة الزراعة في أحد المختبرات التي تعتمدها والتي أتت صالحة للاستهلاك البشري. وفي إحدى الصوامع أتت نتائج نسبة الأفلاتوكسينات في عينات الجامعة الأميركية 4.5 أضعاف عينات وزارة الزراعة، ويعود ذلك إلى أن العيّنات أُخذت من مستويات مختلفة من الصوامع، علماً أن هناك اختلافاً كبيراً في درجة الحرارة ونسبة الرطوبة بين المستويات المختلفة. ولكن، في المحصلة، فإن التصدّع الذي أصاب الصوامع ورطوبة البحر وتساقط الأمطار… جعلت من هذه الحبوب بيئة ملائمة للتلوث الكيميائي والجرثومي وخصوصاً الفطري.

في ضوء هذه المعطيات، اقتُرح (من خارج اللجنة) استعمال الحبوب كعلف حيواني. لكن لم يؤخذ بالاقتراح لسببين، الأول عدم الثقة بعدم لجوء بعض التجار إلى التزوير وتحويل الحبوب إلى الاستخدام البشري، والثاني هو أن استخدامها علفاً سيعني دخول هذه الملوثات الكيميائية في الحلقة الغذائية عبر المنتجات الحيوانية من لحوم وبيض وحليب وغيرها. أما اللجنة فاقترحت، بناء على تجارب في إدارة كوارث مشابهة، إتلاف هذه الحبوب بحرقها أو رميها في عمق البحر أو تحويلها إلى إيثانول عبر شركات صناعية.

منذ أيلول الماضي، عُقدت لقاءات عدة بدعوة من نعمة حضرها ممثلون عن الجيش ووزارتي البيئة والزراعة وفريق الخبراء المحليّين والدوليّين بدعم من السفارة الفرنسية. وتم التوافق على اعتبار الحبوب، بالاستناد إلى القوانين المحلية والدولية، غير صالحة للاستهلاك البشري أو الحيواني، وبمثابة نفايات صلبة يجب التخلص منها. وفيما اعتبرها البعض نفايات خطرة يفترض ترحيلها وفق اتفاقية بازل الدولية لنقل النفايات عبر الحدود، اعترض آخرون على هذا التصنيف غير الوارد في نتائج فحوصات العينات. وجرى البحث في كيفية فصل الحبوب عن النفايات الناجمة عن عملية هدم الإهراءات، بعدما تبين صعوبة تفريغها دون هدمها ما يؤدي إلى مزيج نفايات صلبة مكونة من نفايات حبوب واسمنت.

وتطرّق البحث إلى الأساليب التي يمكن اعتمادها لمعالجة الحبوب، منها التخمير في معامل متخصصة لاسترداد الإيثانول، أو في محارق متخصّصة، أو تصديرها للمعالجة في الخارج، أو طمرها في مطامر صحية أو دفنها في عمق البحر أو تخميرها لتحويلها إلى «كومبوست». وشكّلت وزارتا الاقتصاد والبيئة، الأسبوع الماضي، لجنة مصغرة لاتخاذ القرار والبدء بالإجراءات. وعلمت «الأخبار» أن وزير البيئة ناصر ياسين يدفع نحو إعطاء الحلول المحلية أولوية على الترحيل، خصوصاً إذا كانت لهذه الحلول قيمة مضافة، كالاستفادة من الحبوب في التخمير وتحويلها إلى «كومبوست» وتوزيعها على المزارعين. ويبدو أن الاتجاه هو للسير في هذا الحل، خصوصاً بعدما تبيّن أن معمل التخمير التابع لبلدية زحلة يمكنه استيعاب قسم من هذه الحبوب لتحويلها إلى «كومبوست» صالح للزراعة، وبعدما أبدت بلدية زحلة موافقة على الأمر، على أن يخصّص القسم المتبقّي للكبس واستخدامه كحطب أو كوقود بديل، وقد أبدت ثلاثة معامل استعدادها للقيام بهذه التجربة.

في انتظار ذلك، تبقى الخشية قائمة من عملية التخمير التي قد تؤدي إلى حرائق بسبب تفاعل غاز الميتان وخطر انتشار الديوكسين المسرطن، لا سيما بعد ارتفاع الحرارة إلى أكثر من 60 درجة داخل الإهراءات، وهذا ما حدث فعلاً هذا الصيف. كما ظهرت أخيراً حشرات جديدة لم تكن موجودة العام الماضي.