Site icon IMLebanon

السلطة الدينية تقبض على “الشيعية السياسية” في لبنان

كتب عباس هدلا في “نداء الوطن”:

يتردد دائماً في أدبيات من يمثل “الشيعية السياسية”، عند الحديث عن الوحدة الوطنية والحوار الإسلامي المسيحي والكيان اللبناني، عبارة تفعل فعلها في الوجدان الوطني والشيعي، كرمز ورؤية ونهج، هي “السيد موسى الصدر”. فمن يريد إعطاء مثل عن “لبنانية” الشيعة والوحدة الوطنية والتعايش والمقاومة والعمل الاجتماعي والإنساني، يذكر موسى الصدر. فمن هو موسى الصدر؟ ولماذا يتحبب الكل إليه ويستشهد به ويتبنى نهجه؟

في 30 كانون الأول 1957 توفي السيد عبد الحسين شرف الدين، الأمر الذي ترك فراغاً شيعياً دينياً قيادياً، ما دفع أولاد السيد شرف الدين إلى العمل على صياغة رسالة باسم أهالي صور تدعو نسيبهم السيد موسى الصدر، الإيراني الجنسية المولود عام 1938، الذي تتلمذ وكان تحت رعاية المرجع الديني العراقي محسن الحكيم صاحب النفوذ الديني الكبير على الشيعة اللبنانيين، إلى المجيء إلى لبنان، وحمل هذا المجيء دعماً مباشراً من السيد الحكيم ومن المرجع الإيراني البروجردي غير المعادي لشاه إيران.

وبحسب كتاب “تاريخ شيعة لبنان” الصادر عن أمم للتوثيق والأبحاث، قدم الصدر من إيران إلى لبنان مطلع عام 1959 مع بداية عهد الرئيس فؤاد شهاب، وخرق تقليد رجال الدين الشيعة السائد في لبنان القائم على الهدوء والانكفاء السياسي، فتماهى مع العهد الشهابي من حيث ترسيخ “اللبننة” عند الشيعة وتعزيز الارتباط بالدولة. وبدأ مسيرته بالانخراط بقوة في العمل الاجتماعي بإنشاء مجموعة من المؤسسات الهادفة إلى تقديم المساعدات ونشر برامج ثقافية واجتماعية.

شهد آذار 1964 تطوراً في مسيرة الصدر تمثلت بحصوله على الجنسية اللبنانية بمرسوم من الرئيس شهاب، فتحرر الصدر من فكرة الغربة وانخرط في الحياة اللبنانية من خلال التعاون مع “الندوة اللبنانية” في مسألة الحوار الإسلامي المسيحي. وقام بجولات على الجاليات اللبنانية في العديد من البلدان. وظهرت حيوية الصدر وشغفه بالتنقل بين المناطق اللبنانية كافة، وانخراطه بنشاط في مسارات الشيعة الدينية والدنيوية. وبدأت تتبلور شعبية موسى الصدر بشكل واسع. وظهر ذلك جلياً من خلال الاحتضان والتضامن الشعبي والعلمائي الكبير الذي أحاط به بعد حادثة الشائعة التي تعرض لها في صور مطلع شهر آب 1966.

استطاع الصدر في حركته أن يجمع حوله العديد من المثقفين الشيعة وكذلك الأثرياء المتمكنين الطموحين ممن كانوا قد عادوا من المهجر. وفي 15 آب 1966، أعلن الصدر بيانه الذي يعتبر الوثيقة الأبرز في مسيرته والأساس النظري الاجتماعي لفكرة الحرمان في لبنان والذي طوّر بعد ذلك في حركة المحرومين.

مع قدوم عام 1967، اختمرت فكرة إنشاء نظام ملّي للطائفة الشيعية، فكان أن أقر البرلمان في 16 أيار 1967 قانون تنظيم شؤون الطائفة الشيعية، وإنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. وترافق هذا مع بدء ظهور فكرة العمل الإسلامي السياسي عند الشيعة، وتسرد مجلة “الوطن العربي” تفاصيل اجتماع عقد مطلع عام 1969 في منزل السيد محمد باقر الصدر في النجف لعدد من المشايخ اللبنانيين الشيعة، الذين كانوا يتلقون العلوم الدينية هناك كالشيخ صبحي طفيلي وحسن كوراني وحسن ملك بحضور السيد موسى الصدر، الذي قدم عرضاً للنشاطات التي يقوم بها لشرح صورة العمل الإسلامي الشيعي في لبنان، مشدداً على ضرورة إيجاد الأجواء الإسلامية المناسبة في لبنان، ومن ثم الانطلاق بعد ذلك إلى اعداد الكوادر وتنظيم حركة جماهرية حول مبادئ ومطالب محددة، وتقوم على العمل والدعوة والإصلاح من داخل النظام وبالوسائل السلمية. وتقرر عودة المشايخ إلى لبنان للمساهمة في هذا العمل. تزامنت هذه العودة مع عودة الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله، ولم تلبث أن ظهرت الخلافات بين الشيوخ حول أساليب العمل. منهم من التزم فكر الصدر، فيما تبنى المتشددون الملتزمون “حزب الدعوة” نهج التغيير بالقوة والفرض. وحاولوا ترسيخ هذا الفكر في البيئة الشيعية دون القدرة على التمدد بفعل نجاح وروجان أفكار الصدر واعتناق البيئة لأفكاره.

في 22 أيار 1969، انتخب الصدر رئيساً للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بالإجماع، مفتتحاً عصراً جديداً تمثل بتشارك جدي لرجال الدين والفقهاء مع السياسيين التقليديين في الشأن العام والسياسة. وشهد عام 1974 ريادة الصدر المشهد السياسي بدءاً بإعلانه وثيقة 11 شباط وفيها مطالب الطائفة الشيعية للحصول على حقوقها. تبعها في 17 شباط في مهرجان بدنايل الذي هاجم فيه رجال السياسة المتخاذلين، مروراً بمهرجاني القسم في بعلبك وصور وصولاً إلى نجاح مرشحه في الانتخابات الفرعية في النبطية رفيق شاهين وكسر مرشح كامل الأسعد بفارق خمسة آلاف صوت، وإعلان حركة من أجل المحرومين في المجلس الشيعي في كانون الأول 1974. وفي عام 1975، رسّخ الصدر نفسه الزعيم الأقوى للطائفة فاعتصم وأضرب عن الطعام لخمسة أيام في جامع الصفاء في العاملية ببيروت رفضاً للحرب الأهلية اللبنانية. وأعلن في 6 تموز ولادة “أفواج المقاومة اللبنانية” (أمل) بعد حصول انفجار عين البنية. وكان من الساعين دائماً خلال الحرب الأهلية لتقريب وجهات النظر بين المتحاربين، والمحاول الدائم لوقف الحرب، إلى أن تم اخفاؤه في ليبيا خلال زيارة في آب 1978، ولم يعرف مصيره بعد ذلك.

ترافق اختفاء الصدر مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران في شباط 1979، ودخول المتطوعين الإيرانيين إلى لبنان عام 1980، ما أدى مطلع 1981 إلى ظهور التيار الإسلامي داخل الحركة المتأثر بمفاهيم الثورة المتعارضة والمخالفة لفكر الصدر المتجسد بنهائية الكيان اللبناني، والانخراط ضمن النظام لتغييره. فحصلت الانشقاقات في الحركة. وتكونت بداية حركة “أمل الإسلامية”، ثم “حزب الله” اللذين تبنيا ولاية الفقيه المطلقة المتعارضة مع رؤية الصدر وميثاق حركته، إلى أن حصل الصدام بين حركة الصدر وجماعة الولاية عام 1987 واستمر حتى عام 1990 وأودى بالآلاف من الشباب الشيعي. ورفعت حركة “أمل” بزعامة نبيه بري خلال تلك الحرب شعار الحفاظ على “قرار الجنوب لأهل الجنوب” ، في مقابل تكفير جماعة الولاية للحركة. وبعد سيطرة النظام الأسدي على لبنان، ُفرض التحالف على الطرفين والتقت المصالح وترسخ هذا التحالف إلى ثنائية هيمنت على الحياة السياسية الشيعية، مستحضرة مواقف وشعارات الصدر دون الالتزام والسير بها.