IMLebanon

بعلبك تواجه العطش

كتب عيسى يحيى في “نداء الوطن”:

في مشهد صادم ومؤلم لأهالي بعلبك، بدت بركة البياضة في محلة رأس العين جافة تمامًا هذا العام، بعد أن كانت تفيض بالحياة وتعكس صفاءها على وجوه زوارها والمزارعين الذين اعتمدوا عليها لعقود. الجفاف الذي أصاب البركة يعيد إلى الأذهان مشاهد مماثلة حصلت في العام 2016، لكنه هذه المرة يأتي في ظل تغيّرات مناخية أكثر حدّة، وغياب شبه كامل لأي حلول جذرية.

تقع بركة البياضة على أنقاض هياكل رومانية قديمة، وتُعدّ واحدة من أبرز المعالم الطبيعية والأثرية في المدينة، وتشكّل رمزًا جماليًا وسياحيًا ، ورافدًا حيويًا لأهالي المدينة ومزارعيها. في فصل الصيف، تتحول البركة إلى نقطة تجمع للعائلات صباحا ومساءً، ولمحبي الرياضة، يستظلون بجوارها، ويتنفسون نسيم مائها البارد في أيام الحر اللاهب. أما اليوم، فكل ذلك تبخّر، وحلّت محلّ المياه أرضٌ قاحلة، متشققة، كأنها مرآة لوجه الأزمة التي تضرب المدينة.

لكن الأمر لا يقتصر على الجمال أو السياحة، بل يتعدّاه إلى ضرب الزراعة. فالمزارعون الذين لطالما سحبوا المياه من البركة عبر أقنية قديمة منذ الرومان، وجديدة استحدثتها البلديات المتعاقبة والوزارات المعنية لريّ محاصيلهم، باتوا مجبرين على الاعتماد على الآبار الجوفية، التي بدورها بدأت تجف أو يخفّ منسوبها بشكل خطير. ويُرجّح كثيرون أن السبب يعود إلى التراجع الحاد في كميات المتساقطات هذا العام، إضافة إلى الاستهلاك العشوائي غير المنظم.

يقول المزارع “أبو علي”، وهو أحد الذين يزرعون الدخان (التبغ) في بساتين مدينة بعلبك، وهو محصول حساس يحتاج إلى ريّ مستمر ومنظم، “كنت أروي موسمي من البياضة منذ سنوات. المياه كانت وفيرة وسهلة الوصول، دون كلفة. منذ أن جفّت، اضطررت إلى الاعتماد على بئر ارتوازي حفرته منذ سنين في أرضي”. أضاف، “في البداية كانت تكفي، لكنها الآن بالكاد تضخ. قبل يومين، لم أستطع ريّ نصف الأرض، وهذا يعني أننا مقبلون على خسارة قسم كبير من الموسم، مما يعني خسارة عامٍ كامل من التعب والمصروف، خصوصًا أن زراعة التبغ تحتاج إلى جهد يدوي وتكاليف مرتفعة.

وحيث لا تتوقف الأزمة عند الزراعة، فإن مياه الشفة هي الأخرى بدأت تشهد تقنينًا حادًا في بعض أحياء المدينة، حيث انخفضت تغذية المنازل بشكل ملحوظ، خصوصًا في المناطق المرتفعة. ومع غياب حلول بديلة أو مشاريع استراتيجية لتخزين المياه أو إعادة تدويرها، فإن القلق يتفاقم يومًا بعد يوم، ويواجه الأهالي صعوبة في تأمينها، لا سيما وأن التوزيع غير العادل من شركة المياه على الأحياء يدفع الناس لشراء المياه بمعدل “صهريج” كل خمسة أيام بثمن يتجاوز المليون ليرة، ويكاد البعلبكي يدفع نصف معاشه لتأمين المياه.

أمام هذا الواقع، تبدو الجهات الرسمية غائبة كليًا. فلا وزارة الطاقة والمياه أطلقت خطة طوارئ، ولا البلديات استطاعت أن تقدّم حلولًا إسعافية، سوى ببعض الإرشادات العامة. الأسوأ من ذلك أن حفر الآبار الخاصة بات عشوائيًا، من دون دراسة بيئية واضحة، مما يهدد بتسريع استنزاف المخزون الجوفي في السنوات المقبلة.

إن أزمة بركة البياضة ليست حالة طارئة، بل هي إنذار مبكر لِما قد تواجهه المنطقة من تصحّر وجفاف متواصلين، ما لم يتم التحرك سريعًا لوضع خطة إنقاذ حقيقية.

بعلبك، التي لطالما عُرفت بخصوبة أرضها وغنى مائها، تجد نفسها اليوم على حافة العطش. البركة التي كانت زينة المدينة تحولت إلى مرآة لواقع موجع، فلا ماء، ولا ريّ، ولا من يروي ظمأ الأرض والناس.