IMLebanon

وطن مشلّع بين زيارة لاوون الرابع عشر ووصاية خامنئي

كتبت جومانا زغيب في “نداء الوطن”:

يدرك البابا لاوون الرابع عشر أن زيارة لبنان تمثل بالنسبة إليه تأكيدًا على قناعة ذاتية راسخة بأهمية التواصل والانفتاح، من دون التخلي عن المبادئ والثوابت المسيحية في ما يتعلق بالحرية والمساواة وحقوق الفرد والجماعة، لا بل إنه، ومنذ اللحظة الأولى لحبريته، أعطى علامات واضحة لجهة ميله نحو التمسك بجوانب محافظة لدى الكنيسة الكاثوليكية وعدم الإغراق في ليبرالية تزيد عن حد معين، متمايزًا بذلك عن سلفه البابا فرنسيس.

وبحسب أوساط قريبة من الفاتيكان، فإن البابا الجديد يعرف لبنان أكثر مما كان يعرفه البابا السابق في بداية حبريته، وقد كان على تماس مع لبنانيين أو مواطنين في دول أميركية جنوبية عدة ذوي أصول لبنانية، ويقدّر جيدًا أهمية الوجود المسيحي في لبنان والمشرق، وهو وجود يرى ضرورة حتمية لتأمين استمراره بما يعنيه من حضور فعلي وشراكة في لبنان كوطن نموذجي.

وتلفت الأوساط إلى أن البابا لاوون الرابع عشر لم يتأخر في الكشف عن عناوين عهده وأسلوبه في مواجهة التحديات، إذ لا يحب الانتظار كثيرًا ويفضل بت الأمور بسرعة معقولة، وينوي في الوقت عينه إعادة تذكير الكنائس الكاثوليكية في مختلف أنحاء العالم بالقيم التي ينبغي التزامها وبضرورة الالتصاق أكثر بهموم الرعية.

وتشير إلى أن الحبر الاعظم مع حرصه على عدم التدخل في الشؤون السياسية للبلدان على اختلافها، لكنه معني جدًا بمصير المسيحيين في الشرق الأوسط، وفي مقدمهم مسيحيو لبنان. وقد عبر مرارًا وبشكل ملفت عن تضامنه مع المسيحيين في المنطقة، ولم يتردد في دعوة المجتمع الدولي إلى حمايتهم والتأكيد على خيار السلام عبر الحوار والدبلوماسية لمنح المسيحيين فرصة جدية للصمود في أرضهم مع التمتع بالأمان والحقوق الكاملة، وقد ركز بخاصة أكثر من مرة على المسيحيين تحديدًا في لبنان وسوريا والعراق والأراضي المقدسة.

ولا تستبعد الأوساط أن يفتح البابا باب تدخل الفاتيكان كوسيط خير لحل النزاعات والإشكاليات المرتبطة بالعلاقات المسيحية الإسلامية بشكل خاص.

وما يؤكد تقدم الحبر الأعظم في رؤيته للواقع في لبنان والمنطقة، هو دعوته الملحة المجتمع الدولي لعدم إشاحة أنظاره عن الواقع المسيحي في المشرق. وفي ما خص لبنان تحديدًا، فإن الحبر الأعظم وبعد تشاور موسّع مع معاونيه، بات على اقتناع بأهمية الحفاظ على لبنان الشراكة والميثاق عبر تطويرهما بشكل مدروس، بما يحفظ وحدة لبنان ويصون حقوق المسيحيين وغير المسيحيين ضمن إطار التعددية والتنوع بمعزل عن حسابات العدد.

على أن العلاقة بين القوى السياسية المسيحية والكرسي الرسولي كانت دائما تشهد مدًا وجزرًا، في ضوء مقاربة فاتيكانية تاريخية محافظة، تُقدم التوافق المسيحي الإسلامي كأولوية، وتحث المسيحيين دائما على الاعتدال، وهو ما أثار في حينه انزعاج الرئيس بشير الجميل في مطلع ثمانينات القرن الماضي، فتوجه إلى السفير البابوي في لبنان بعبارات تخرج عن الإطار الدبلوماسي بقوله إن المسيحيين يرفضون أن يكونوا حقل تجارب وإن الفاتيكان وسفارته في لبنان يتخذان موقفًا محايدًا أكثر من اللزوم، في وقت كان المسيحيون في خطر وجودي ويحتاجون إلى موقف حازم حيال خصومهم، بل لم يتردد في وصف السفير البابوي في حينه، وأكثر من واكبه في حينه المونسنيور كارلو فورنو، بأنه يتصرف كسفير دولة أجنبية وليس كممثل للبابا بين أبناء الكنيسة.

أما اليوم فتبدو العلاقة أكثر استقرارًا، لكن الطابع المتحفظ يستمر غالبًا على موقف الكرسي الرسولي الذي ما زال ولو نسبيًا، متأثرًا بالصراعات المسيحية المسيحية خلال الحرب ونتائجها السلبية على المسيحيين.

وتخلص الأوساط إلى القول، إن لا مجال لأي مقارنة جدية بين التعاطي الفاتيكاني مع لبنان والتعاطي الإيراني مع لبنان، باعتبار أن إيران تتصرف مع لبنان كـ “أرض جهاد” وامتداد للثورة الإسلامية، وتتخذ طرفًا في المعادلة السياسية الداخلية، فيما الكرسي الرسولي ومع اهتمامه الكبير بالواقع المسيحي كيانًا ووجودًا، يحرص على الانفتاح على مختلف المكونات اللبنانية ويعتبر أن التوافق تحت سقف الميثاق الوطني هو الضمانة الأولى والأهم وطنيًا ومسيحيًا.

ويرى دبلوماسي مخضرم خَبِر العلاقات الإسلامية المسيحية، أن التدخل الإيراني في لبنان هو تدخل سياسي بغطاء عسكري ومالي، وذلك كله تحت عباءة دينية وجد نظام الملالي مبررًا لها من خلال نظرية ولاية الفقيه، لإعطاء شعار تصدير الثورة الإسلامية قوة دافعة يتم ربطها بالإرادة الإلهية، علمًا أن العديد من كبار العلماء الشيعة يرفضون نظرية ولاية الفقيه بل إن بعضهم يضعها في مرتبة البدعة الدخيلة.

ومن هنا يمكن فهم الارتباط العضوي لـ “حزب الله” بالمرجعية الإيرانية، والإصرار على تبعية شبه كاملة، على الرغم من أن السيد حسن نصرالله كان يمتلك، نظرًا لشخصيته الاستثنائية، هامشًا معينًا،علمًا أن تطورات الحرب الأخيرة كشفت مدى ارتباط “الحزب” بإيران، وصولًا إلى التعاطي مع الدولة اللبنانية كأنها مجرد حالة موقتة وأداة للوصول إلى الهيمنة على السلطة، وهو المشروع الأساسي الذي كانت وراءه إيران وما زالت تحض “حزب الله” على الرهان عليه واستغلال السباق مع الوقت لا سيما في هذه المرحلة التي تبدو آفاقها ملتبسة.

ويختم الدبلوماسي المخضرم بالقول: “إن التعاطي الإيراني مع لبنان هو تعاطٍ فوقي لا يقيم وزنًا لوطن ودولة، بينما التعاطي الفاتيكاني هو أقرب إلى شبكة أمان لحماية لبنان والعيش معًا والتفاعل الحضاري المسيحي الإسلامي الذي يتخذ أكثر فأكثر أهمية قصوى كنموذج لتخطي الخلافات والاختلافات، وسط بروز اضطرابات مضطردة ذات طابع طائفي في أوروبا، في موازاة تقدم مسيرة الانفتاح العربية التي يقودها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان”.