Site icon IMLebanon

الضاحية الجنوبية عاصمة “الولاية”

كتب عباس هدلا في “نداء الوطن”:

في 29 تشرين الثاني 2025، رحبّ أعضاء ومناصرو ومحبو “حزب الله” بالبابا لاوون الرابع عشر أثناء مروره في الضاحية الجنوبية بصور مذيلة بعبارة “أهلاً بك في ضاحية السيّد حسن نصرالله”، ولعلّ هذا الترحيب والتأهيل أظهر ما أصبحت عليه هذه المنطقة، فهي لم تعد فقط عاصمة ومركز قرار لمشروع تصدير الثورة الإسلامية المتمثل بـ “حزب الله”، إنما أصبحت رمزًا ومكانًا مقدسًا يحوي “مرقد سيد شهداء أمته”، ولعل من هنا تبدأ سردية منطقة تحولت خلال نصف قرن تحولًا جذريًا إن من ناحية الجغرافيا، التاريخ أو الديموغرافيا، فمن منطقة هادئة وادعة على الأطراف الجنوبية لبيروت تتميز بالحدائق الغناء ورائحة الزهر وتتميز بالتعايش بين المجموعات اللبنانية المختلفة، أضحت رأس حربة في مشروع تعدى الحدود، ومركزًا لمحور متكامل، وساحة صراع لا ينتهي.

الضاحية قاعدة وعاصمة قرار “حزب الله”

رغم كون مدينة بعلبك الحاضنة التي تهيأ فيها أعضاء وكوادر “حزب الله” على يد الحرس الثوري الإيراني، إلا أن ولادة وانطلاقة جماعة “حزب الله” كانت في حسينية الشياح في 16 شباط 1985 في الذكرى السنوية الأولى لاغتيال “الشهيد السعيد” الشيخ راغب حرب، والتي أطلق فيها رسالته المفتوحة إلى المستضعفين في لبنان والعالم، والتي ذيِّلت بتوقيع “أمة حزب الله”.

في أيار 1987، وبعد معارك شرسة بدأها “حزب الله” بهجوم شامل على مركز حركة “أمل”، سيطر “حزب الله” بشكل شبه كامل على الضاحية باستثناء ما كانت تعرف بمنطقة الشياح، منهيًا أي شراكة معها في تلك المنطقة، فارضًا عليها نمطه الفكري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بعد أن فرض السيطرة الأمنية والعسكرية، وفي تسعينات القرن الماضي تحولت الضاحية عاصمة القرار في مناطق”الولاية” حيث “شورى القرار” في “المربع الأمني” في حارة حريك، وحيث كل الإدارات العامة للمؤسسات والهيئات والجمعيات الحزبية وتلك التي تدور في فلكه، وصولًا إلى سيطرته على كل بلديات المنطقة في الانتخابات البلدية عام 1998. ومع حدوث حرب 2006، وما حصل من تدمير كامل في الضاحية الجنوبية، تظهّرت سيطرة “حزب الله” الشاملة على المنطقة، بطريقة البناء، وذلك من خلال شركة تم انشاؤها لهذه الغاية هي “شركة وعد” التابعة لمؤسسة “جهاد البناء” التي لُزمت كل عملية إعادة الإعمار في الضاحية الجنوبية بوكالة شاملة من كل القاطنين والساكنين، وبمباركة من الدولة اللبنانية وأجهزتها ومؤسساتها، فأعيد بناء الضاحية وفق ما ارتأت مرجعية الشركة وهي قيادة “حزب الله”، وأضحت الضاحية بمجملها قاعدة “جماعة الولاية” وعاصمة قرارهم.

من “ساحل النصارى” إلى ضاحية “السيد”

تعتبر تسمية “الضاحية الجنوبية” تسمية حديثة للمنطقة التي تحوي برج البراجنة، المريجة، الليلكي، الغبيري، حارة حريك، وأجزاء من الشويفات والحدث والشياح، وكانت تعرف قبل الحرب الأهلية اللبنانية بساحل المتن الجنوبي، وكانت في أيام المتصرفية تعرف بساحل النصارى، وكانت مشهورة بالبساتين الخضراء ورائحة الزهور، ويروي النائب الراحل صلاح الحركة في تسجيل له ضمن مشروع “بحثًا عن الضاحية” الذي أنجزته “أمم للتوثيق والأبحاث” عام 2007 عن ذاكرة وتاريخ تلك المنطقة، عن لقائه مع رئيس الجمهورية الراحل الياس الهراوي عام 1996، حيث حدّثه الرئيس عن ذكرياته في مدرسة الحكمة عندما كانوا يذهبون إلى منطقة الليلكي والمريجة، وقال له “بعدو ريحة الزهر لهلق موجود بمناخيري”، تميزت هذه المنطقة قبل الحرب الأهلية اللبنانية بالتعايش بين أهاليها، حيث كانت هذه المنطقة ذات أغلبية مسيحية، ولا تزال لوائح شطب مناطق حارة حريك والمريجة والليلكي ذات أغلبية مسيحية، وخاصة في المريجة والليلكي حيث تتخطى تلك النسبة الـ 90%.

استقبلت تلك المناطق النازحين الجنوبيين والبقاعيين الذين كانوا يلتجئون إليها للعيش فيها والعمل في بيروت، شأنها شأن العديد من المناطق الأخرى المحيطة بالعاصمة، ومع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، وبداية عمليات الخطف والقتل، بدأت المنطقة تتأثر بهذه الأحداث، فبحسب كتاب “جغرافية وديموغرافية، مِنَ البَحثِ عَنِ الاسْتِقرَار إلى التَّمَدُّدِ المُوَجَّه” الصادر عن “أمم للتوثيق والأبحاث” عام 2023، بدأت موجة تهجير أهالي المنطقة وخاصة المسيحيين في حارة حريك إلى مناطق أكثر أمنًا، في مقابل موجة تهجير معاكسة من الضواحي الشرقية لبيروت، واستُكملَتْ بعد انتفاضة 6 شباط 1984 وانسحاب الجيش اللبناني، عَمليَّةُ التَّهجِير، فشملَتْ أحياء بأكملها، فحيّ صفير رحلَ منه المسيحيون وسكنَ مكانهم مسلمون، معظمهم شيعة، وكذلك في الرويس وحي ماضي وبئر العبد ومناطق المريجة والليلكي ذات الأغلبية المسيحية، ولم يَستثنِ التهجيرُ حتى الشيوعيين من المسيحيين، خاصةً بعد اختطاف ميشال واكد، ابن حارة حريك، والعثور على جثته لاحقًا عام 1986. ساهمتْ عَمليَّةُ شراء العقارات في تبديل الطبيعة الديموغرافيَّة للضاحية، ومنها حارة حريك، فابتاعَ تجارٌ شيعةٌ أراضي المسيحيين، إما ترغيبًا بأسعار مرتفعة، أو ترهيبًا بوضع اليَدِ عليها وإرغام مالكيها على بيعها بمبالغَ مُخفضة. كما في حارة حريك، انتشرَتْ في المريجة ظاهرةُ بيع الأراضي بعد عام 1983، عندما تَهجَّر أبناؤها إلا أقليَّة. وعندما طالَ أمدُ الحرب اضطر المسيحيون لبيع أرضِهم لاستغلال المال في تحسين ظروف الحياة، وانتقَلوا إلى أماكنَ أخرى، وبذلك تَغيَّر الوجهُ الطائفي للبلدة إضافةً إلى تحولها إلى بلدةٍ مُكتظة بالمباني والسُّكَّان الوافدين بعدما كانت العائلات التي تتألف منها قرى المريجة وتحويطة الغدير والليلكي تعدادها 119 عائلة غالبيتُهم الساحقة من المسيحيين. مع انتهاء الحرب الأهلية عام 1990، لم يستطع أحد من مالكي تلك المنطقة العودة واستعادة أملاكه بفعل سيطرة قوى الأمر الواقع ووجود الاحتلال السوري، أما الأراضي التي بني عليها فجرت في شأنها تسويات، ما حال دون استعادة الأملاك من قبل أصحابها، وأجبر أصحاب الأرض الشرعيون على بيعها بأسعار زهيدة.

منذ نهاية الحرب الأهليَّة، أخذت التصوراتُ المرتبطة بالضاحية ترتبط برؤى وتوجهات ومفاهيم وأدبيات ومنهج “حزب الله” على مختلف المستويات وأصبحَتْ بشكلٍ مُتزايد ضاحية “حزب الله”. ففي سنوات التسعينات، كما أسلفنا سابقًا، اندمجَت السيطرةُ الاجتماعيَّة على المكان في تشكيلاتٍ مؤسَّسيَّة متينة عكسَتْها النتائجُ الانتخابيَّة. وبعد عام 2000، لم تعد هناك حاجةٌ عند “الحزب” لإظهار إمساكِه الأرض بشكلٍ يومي، حيث أصبحت الضاحية المكان الرسمي لكل مناسبات “الحزب” المركزية، ومركز القرار لكل إداراته ومؤسساته، وفي أعقاب عام 2006، اتخذت الضاحيةُ بُعدًا رمزيًّا كبيرًا في خطاب “حزب الله” يمثله القولُ الذي نشرَه إعلامُه الرسمي في الذكرى الأولى لحرب تموز: “هنا الضاحية… لا نبالي. والضاحية اسمُنا، ورسمنا، وحزمنا، وعزمنا الذي لا يلين، ووعدنا، ومجدنا، وعهدنا الثابت الأمين”، وبعد “حرب الإسناد” و “سهام الشمال” عام 2024، أصبحت مركزًا لمقام “سيد شهداء أمته السيد حسن نصر الله” بعد أن تم اغتياله في رحابها، فتحولت من ضاحية “حزب الله” إلى ضاحية “السيد”.

شهد عام 2025 انطلاق عهد الرئيس جوزاف عون وحكومة الرئيس نواف سلام، تحت عنوان استعادة الدولة دورها وسيادتها، فهل تعود لساحل المتن الجنوبي تسميته وتعود لتلك المناطق موزاييكها التعددي؟ أم أن الفرز قد حصل، وما كتب قد كتب، وأضحى ساحل النصارى وساحل المتن الجنوبي ذاكرة ماضية لحاضر ترسخ وهو “ضاحية السيد”؟