كتب أنطوان مراد في “نداء الوطن”:
يقول عارفون بدقائق الموقف الفاتيكاني من لبنان، إن دعوة قداسة البابا لاوون الرابع عشر “حزب اللّه” إلى التخلّي عن سلاحه ليست مجرّد خاطرة أو ملاحظة عابرة، بل إنها نتيجة تفكير عميق ومواكبة جدية للوضع في لبنان لا سيّما في ضوء الأحداث الأخيرة منذ اندلاع حرب غزة.
ويضيفون: إن البابا لا يطلق أحكامًا في الهواء، بل يحرص على التشاور مع كبار معاونيه كلّ في اختصاصه، علمًا أن أمين سرّ دولة الفاتيكان له كلمة نافذة لدى الحبر الأعظم، وهو الذي قدّم له عرضًا شاملًا ووافيًا للمشهد اللبنانيّ بتطوّراته ومعادلاته، بالتعاون مع الدوائر الدبلوماسية المعنيّة. ومن هنا، فإن البابا اطّلع على رسالة “حزب اللّه” التي لم يقتنع ببعض نقاطها الهادفة إلى تبرير استمرار “المقاومة” بمعزل عن الدولة اللبنانية التي لها وحدها السيادة على قرارها، وتاليًا حرص على بناء موقف واضح من السلاح، اقتناعًا منه بأن السلاح لا يفيد بل يتسبّب في المزيد من المآسي، وأن المرحلة الآتية هي مرحلة سلام ولا مجال للبقاء خارج إطار العملية السلمية.
ومن هنا، فإن الفاتيكان يؤيّد التفاوض والحوار بمختلف أشكاله توصّلًا للسلام المنشود، وهو في أي حال وفق نظرته، سلام عادل ويلحظ حقوق مختلف الشعوب والدول. ولذلك، وكما يرى العارفون، فإن محاولة جرّ الكرسي الرسولي إلى الدائرة التقليدية القديمة التي تربط السلم الأهلي في لبنان بشرط التصدّي لإسرائيل، هي محاولة انتهت صلاحيتها، لأن لا مبرر بعد اليوم لأي حرب عبثية، علمًا أن الحبر الأعظم يدرك جيدًا أن تداعيات الحرب الأخيرة لم تنته بعد، وأن فصلًا آخر من العنف وارد جدًا للأسف على رجاء أن يكون الأخير.
ويختم العارفون بالقول: إن البابا لاوون لن يوفر جهدًا لتدارك مثل هذا الفصل من العنف، ويعرف في الوقت عينه أنه لن يؤدي إلى تغيير أي معادلة، بل سيفاقم آلام اللبنانيين، ومن هنا كانت رسالته الصريحة إلى “حزب اللّه” بالتخلّي عن سلاحه، والتسليم بالمنحى الدولي والإقليمي في اتجاه ترسيخ منطق السلام وما يعنيه من حوار وتفاعل لحلّ مختلف القضايا والخلافات. ويعوّل الكرسي الرسوليّ، بحسب المصادر نفسها، على وجود غطاء غربي وعربي في الوقت عينه للحفاظ على الصيغة اللبنانية تحت سقف الميثاق الوطني الذي تكرّس مع اتفاق الطائف، مع الترحيب بأيّ جهد لتطوير الشراكة في لبنان بين المسيحيين والمسلمين وفق المنطق التوافقي وبما يحفظ التنوّع والتعدّدية في إطار الحرية والمساواة.
على صعيد آخر، تلفت أوساط قريبة جدًا من الكنيسة في لبنان، إلى أن زيارة قداسة البابا كانت ناجحة جدًا وفق المعايير الروحية والرعوية والإنسانية، وتضمّنت محطات شديدة التعبير ولّدت لديه أثرًا عميقًا، وعززت لديه الاقتناع بأن اللبنانيين ولا سيّما المسيحيين يستحقون الاستقرار والأمان، كما يعشقون الحرية، وقد عانوا كثيرًا من الهجرة والتهجير ولم يعد جائزًا الاستمرار في النزف، بل المطلوب معالجة أسبابه من دون حرج أو تردّد. وتشير إلى أن الحبر الأعظم تأثر جدًا بلقائه أهالي شهداء وضحايا تفجير مرفأ بيروت، وأنه لم يخفِ استغرابه لتعثر مسار إحقاق الحق وكشف الحقيقة.
وفي ما خصّ الإشكال المتعلّق بعدم دعوة رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع إلى لقاء البابا في قصر بعبدا، مع آخرين من رؤساء الأحزاب، فقد علمت الأوساط أن ثمّة نوعًا من الامتعاض لمحاولة زجّ دوائر الكرسي الرسولي في هذا الإشكال من خلال الكلام على تماهٍ مع البروتوكول الخاص بالفاتيكان. وتوضح أن الكرسي الرسولي لديه إطار بروتوكولي عام ينسّق في شأنه حول العناوين العريضة ولا يفرضه على أحد، ولا سيّما على سلطات البلد المضيف، ولا يدخل في تفاصيل الأسماء والدعوات وجلوس المدعوّين وسواها، وإلّا لكان حصل إشكال خلال زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر لبنان ولقائه كبار الشخصيات في قصر بعبدا إلى جانب الرئيس ميشال سليمان، وكان من بينهم الدكتور سمير جعجع. ولذلك، فإن المسؤولية الأساسية يتحمّلها مكتب البروتوكول الرئاسي، سواء تصرف من تلقاء ذاته أو بتوجيهات معيّنة.
وفي أي حال، فإن مراجع كنسية محلية عدة أبدت نوعًا من الاستغراب لاستثناء جعجع من الدعوة، وذلك لأسباب منطقية وموضوعية تتخطى هوامش البروتوكول. وتلفت المراجع إلى أن لا الفاتيكان ولا الكنيسة في لبنان كان لهما رأي راجح في موضوع الدعوات إلى قصر بعبدا. وتوضح المراجع نفسها أن دوائر الفاتيكان اطّلعت على تفاصيل ما حصل وتعتبر أن المسألة تتخطى دورها، وتتمنى أن تتمّ معالجة تداعياتها.
يبقى أن الإشكال لم يقتصر على قصر بعبدا، بل امتدّ إلى القداس الاحتفالي الكبير في واجهة بيروت البحرية، إذ تلقى الدكتور جعجع والنائبة ستريدا دعوة أولى لم تلتزم الأصول وتمّ رفضها، لتُرسَل بعد حين دعوة أخرى بعد تصحيح الخلل فيها.

