IMLebanon

زيارة البابا تهدّئ القلوب… أم تسبق الضربة؟

كتب شربل صفير في “نداء الوطن”:

لم تكن زيارة البابا إلى لبنان حدثًا بروتوكوليًا أو محطة روحية عابرة، بل مرآة عكست بدقة واقع وطن يقف على حدود الانهيار وعلى تخوم الرجاء. فالشعب الذي خرج تحت المطر، متحدّيًا صمت الخراب، لم يفعل ذلك بحثًا عن لحظة احتفالية، بل لينتزع اعترافًا بوجوده، بصبره، وبقدرته على البقاء واقفًا رغم كلّ ما انهار من حوله. كانت كلّ قطرة مطر شهادة إضافية على صمود مجتمع أنهكته السنوات الثقيلة، ولم تُنهكه إرادته بالبقاء.

بعد هذه الزيارة، لم تعد الرمزية الدينية مجرّد لحظة موقتة؛ بل تحوّلت إلى اختبار عمليّ للسياسة والضمير الوطني. السؤال اليوم صار صارخًا وواضحًا: هل يستطيع اللبناني تحويل كلمات البابا إلى فعل حقيقيّ، إلى مشروع حياة قادر على حماية الدولة والمجتمع، قبل أن تقترب ساعة الصفر التي قد تعيد رسم مستقبل لبنان في سياق أزمات سياسية وإقليمية متشابكة؟

ماذا يريد اللبناني من البابا؟

اللبناني الذي استقبل البابا لم يكن يبحث عن شعارات دبلوماسية أو هدايا رمزية، بل عن اعتراف بحضوره الإنساني والسياسي في آن واحد. يريد أن يسمع أن صوته مسموع، وأن وجوده ليس مجرّد رقم في إحصائية أزمة أو ملف دولي، بل له وزن وحق في التأثير على مستقبل وطنه. يريد أن يشعر أن رجاءه مشروع قابل للتحقق، وأن القدرة على النهوض لم تُغلق بعد، رغم الانكسارات السياسية والاقتصادية المستمرّة منذ سنوات.

يريد أن يُذكّر السلطة بأن المسؤولية ليست امتيازًا، وأن الدولة ليست لعبة تُستغلّ لتحقيق مصالح شخصية. يطلب أن يُثبت له أن الهوية ليست ورقة تُكتب أو تُمحى، بل إرثًا حيًّا يجب حمايته من الانكسار والانقسام. يؤكّد أن لبنان ليس مجرّد ملف إنساني أو أزمة عابرة، بل هو رسالة حية للعالم تتطلّب اهتمامًا حقيقيًا.

يريد أن تُوضَع أمامه الحقيقة: السلاح خارج الدولة يقتل مستقبل الوطن ويقوّض أيّ رجاء حقيقي. يأمل أن يُزرع في قلبه يقين بأن الرجاء يتحوّل إلى فعل ومشروع حياة فقط حين يُؤخذ على محمل الجدّ، لا بالكلام وحده.

ويحتاج أيضًا أن يُذكّر بأن الدولة هي المرجعية الوحيدة للأمن والنظام، وأن كلّ تهديد خارج القانون يضع المجتمع في فوضى مستمرّة. ويريد أن يرى دعمًا رمزيًا لما يطالب به قلبه: أن حقه وكرامته ليسا مجرّد شعارات، بل هما أساس لبناء وطن يحمي مواطنيه ويعيد لهم الثقة بأن العدالة والمواطنة ممكنتان.

في العمق، يسعى اللبناني إلى تحويل الرجاء من شعور موقت إلى فعل يوميّ، قدرة على المقاومة، تحدي الانقسامات، والمطالبة بسيادة الدولة على كامل أراضيها وسلاحها، بعيدًا من أي هيمنة مسلّحة خارج القانون.

رسائل البابا: السلطة والشعب والعالم

حثّ البابا اللبنانيين على اتباع “طريق المصالحة الشاق”، متحدثًا عن “جراح شخصية وجماعية تتطلّب سنوات طويلة وأحيانًا أجيالًا كاملة لكي تلتئم”. وأضاف: “إن لم تُعالج، وإن لم نعمل على شفاء الذاكرة، وعلى التقارب بين من تعرّضوا للإساءة والظلم، فمن الصعب السير نحو السلام”. وأشاد بالشعب اللبناني: “أنتم شعب لا يستسلم، بل يقف أمام الصعاب ويعرف دائمًا أن يولد من جديد بشجاعة”.

من هذه الرؤية، تنبثق رسائل البابا الثلاثية، الموجّهة إلى السلطة، والشعب، والعالم، كخارطة طريق لفهم دور كلّ طرف في حماية لبنان وإعادة بنائه:

للسلطة: السلطة مسؤولية، لا غنيمة، وحين تتحوّل إلى أداة للامتياز، يخسر الوطن هوية الدولة.

للشعب: الهوية ليست مجرّد ورقة، بل هي إرث حي ينبض في ذاكرة اللبنانيين، القوة التي يمكن أن تحمي الوطن من التمزق.

للعالم: لبنان ليس ملفًا إنسانيًا أو أزمة عبور، بل رسالة كونية لم تُكتب نهايتها بعد، وعليه أن يُرى كرمز للتماسك بين الطوائف والأمم، لا كإحصائية فقر أو انهيار.

البعد السياسي: السلام والدولة

زيارة البابا شكّلت أيضًا إشارات سياسية دقيقة، تكشف عن التحدّيات التي يواجهها لبنان على مستوى القرار والسيادة. فاللقاءات والمواقف لم تقتصر على الجانب الرمزيّ، بل سلّطت الضوء على الحاجة الماسّة إلى توافق داخليّ يضمن الحدّ الأدنى من الاستقرار السياسي، في ظلّ توازنات هشة بين القوى الداخلية والخارجية.

الزيارة أعادت التذكير بأن لبنان ليس مجرّد ساحة صراع بين أطراف داخلية، بل نقطة حسّاسة في خريطة التوازنات الإقليمية. الرسائل التي حملها البابا تشير إلى أن الأمن والاستقرار لا يتحققان إلّا بمرجعية الدولة وبتقوية مؤسّساتها، بما يحدّ من أي محاولات لفرض واقع موازٍ خارج القانون.

كما أبرزت الزيارة أبعاد الضغط الدولي على لبنان لإعادة ترتيب الأولويات السياسية: إصلاح مؤسّسات الدولة، معالجة الانقسامات، وحماية حقوق المواطنين، بما يعيد للدولة قدرتها على الحكم والسيطرة على كلّ ما يجري على أرضها. بهذا المعنى، يمكن اعتبار زيارة البابا لحظة سياسية مضيئة ترسم خطوطًا حمراء أمام أيّ محاولة لاستغلال الفراغ أو الانقسامات لصالح أجندات خارجية، وتضع الشعب والسلطة أمام مسؤولية مباشرة تجاه الدولة ومستقبلها.

هل اقتربت الضربة الإسرائيلية الشاملة؟

زيارة بهذا الحجم، في لحظة توتر إقليمي غير مسبوق، شكّلت فاصلًا زمنيًا لا تبدأ خلاله الحروب، لكن ما بعد انتهائها يفتح مرحلة ضبابية مليئة بالاحتمالات، خصوصًا إذا لم تُحل التعقيدات الحدودية، وإذا استمرّ السباق الإقليمي على فرض الوقائع قبل أي تسوية.

تشير المؤشرات الأخيرة إلى ما يشبه “عدًّا عكسيًا”: تصاعد المواجهات على الحدود الجنوبية بوتيرة غير مسبوقة، وتحوّل الرسائل الدبلوماسية إلى لغة إنذارات حادّة. المرحلة الإقليمية الحالية، المرتبطة بإعادة رسم التوازنات قبل انتخابات أو تسويات محتملة، تزيد من حدّة القلق.

تحليل الاستراتيجية الإسرائيلية يوضح أنها لا تسعى لحرب شاملة، لكنها تبحث عن “نتيجة شاملة”: إخراج “حزب اللّه” من المعادلة، تقليص قدراته، أو فرض ترتيبات جديدة على الحدود. الضغوط الداخلية والتوترات الإقليمية تجعل أي تحرّك عسكريّ محدودًا في البداية، إلّا إذا كان الردّ من “حزب اللّه” واسعًا.

من يحمل الرسالة بعد الرحيل؟

مع مغادرة البابا، يبدأ الامتحان الحقيقي للبنان: هل سيكتفي اللبناني بالبكاء على أطلال وطنه، أم سيحوّل الرجاء إلى مشروع حياة؟ هل سيواجه الطبقة السياسية التي استفادت من الانقسامات والتشتت؟ وهل سيعيد بناء ثقته بنفسه قبل بناء ثقته بالمؤسّسات؟

الأوطان لا تُبنى بالصلوات وحدها، بل بالأيدي التي تحمل هذه الصلوات وتحوّلها إلى مشاريع ومواقف يومية، وبوعي جماعي يرفض الاستسلام لليأس.

زيارة البابا أعادت فتح الباب أمام المعادلة الأهم: أن اللبناني، حين يشاء، قادر على أن يبدأ من نقطة الصفر ويصنع دولة من جديد. الرجاء الذي جاء به البابا ليس شعورًا عابرًا، بل تكليفًا لشعب يعرف أن تاريخه لم يكن يومًا سهلًا… لكنه كان دائمًا ممكنًا.